تحتفل الكنيسة الكاثوليكية اليوم بذكرى القديسة إليزابيث للثالوث الأقدس التي وُلِدَت في 18 يوليو 1880م، بمساكن قاعدة عسكرية بمدينة أڤور الواقعة بمقاطعة شير وسط فرنسا، كإبنة بكر لأبوين هما ضابط برتبة كابتن يُدعى "چوزيف كاتيه"، وزوجته "ماري رولو"، ثم تم تعميدها بعد أربعة أيام من ولادتها بكنيسة المعسكر. بعدها وُلِدَت شقيقتها الوحيدة "مرجريت" عام 1883م.
كانا الوالدان متحابين، وكثيراً ما اهتمت ماري بصحة چوزيف طالبةً منه عدم التدخين بشراهة، لكن سرعان ما اعتلّ قلبه واستقال من الجيش عام 1885م.
بعمر السابعة فقدت إليزابيث والدها، بشكل مفاجئ، فانتقلت مع أسرتها إلى مدينة ديچو شرق فرنسا وفي نفس العام أدت سر الاعتراف لأول مرة، وبسبب فقد الوالد، كانت طفلة صعبة المُراس وسيئة المِزاج بعكس شقيقتها مارجريت الهادئة، لدرجة دفعت والدتها أكثر من مرة إلى تهديدها بإلحاقها بمدرسة داخلية (إصلاحية) تديرها راهبات الراعي الصالح لتحسين سلوكها.
لكنها عندما نالت التكوين الروحي اللازم لأداء المناولة الأولى ثم سرّ التثبيت بعمر الحادية عشر، كانت قد أصبحت أكثر هدوءاً ومتحكمةً في نفسها إلى حدٍّ ما، كما أصبحت أعمق في إدراك الله والحياة. كما اكتسبت فهماً يفوق عمرها لحقيقة الثالوث الأقدس وأصبحت تقدِّم له التمجيد بشكل خاص ودائم وتكرِّس له ذاتها وصلواتها.
في صباها درست بمعهد الموسيقى وأجادت العزف على البيانو لدرجة الحصول على الجوائز والتصفيق الحاد في حفلات المعهد، كما كانت قد بدأت ترجمة إيمانها بخدمة المرضى، والترنيم بكورال الكنيسة، وإعطاء التعليم المسيحي الأساسي للأطفال الذين يعملون بالحِرَف ولا يحضرون إلى الكنيسة.
بعمر الرابعة عشر طلبت مدرستها من تلميذاتها أن تكتب موضوع إنشائي تصف فيه نفسها، فكتبت إليزابيث وصفاً لا يحوي أي حديث عن موهبتها الموسيقية ولا عن خدماتها الروحية، لكنها حاولت بشكل أكثر موضوعية أن تصف نفسها وليس ما تفعله.
إن رسم صورة مادية ومعنوية للذات، أمرٌ بالغ الحساسية، لكني سأستجمع شجاعتي وأبدأ
بلا فخر، يمكنني القول بأن مظهري العام ليس سيئاً، أنا لست شقراء، أبدو أكبر من عمري لأني طويلة بعض الشئ، عيناي سوداوان لامعتان، وحاجبيَّ سميكين مما يجعل نظرتي تبدو حادة أو قاسية، باقي هيئتي ليس بمهم. هذه هي صورتي المادية.
بالنسبة لصورتي المعنوية، أعتقد أني شخصية جيدة إلى حدٍّ ما مرحة، لكن لابد أن أعترف بأني حمقاء طائشة في بعض الأحيان، بطبيعتي مُدلَّلة .. لست كسولة، وأعلم أن العمل هو ما يجعل الإنسان سعيداً.
لست نموذجاً للصبر والتحمُّل لكني أعلم كيف أتحكم في نفسي لا أحمل أحقاداً في قلبي لديَّ عيوب كثيرة وللأسف ليس لديَّ سوى القليل من الصفات الجيدة، لكن لديَّ رجاء أن أحصل على المزيد منها. حسناً إنتهت هذه المهمة الشاقة في وصف نفسي. أنا الآن سعيدة.
وفي أول زياراتها لكنيسة دير الكرمل بديچو قالت لها رئيسة الدير أن اسم "إليزابيث" بالعبرية "بيت المسيح "، كانت لهذه الكلمات أثراً عميقاً في نفسها، وبدأت تقضي أوقات أكبر في هدوء لتسمع صوت الرب، إلى أن اكتشفت رغبتها في أن تكون بالقرب من يسوع لتشاركه فرحه وحزنه. عندما أصبحت في المراهقة المبكرة، قررت الإنضمام لرهبنة الكرمل، برغم حرص والدتها الشديد على إظهار عدم ارتياحها لهذا القرار وكم هي ضدّه تماماً.
خلال فترة المراهقة المتأخرة من حياة إليزابيث، تعمقت روحانيتها. نمت في إدراكها لوجود الله داخلها، وعلى الرغم من أنها كانت تريد أن تلتحق بدير الكرمل، إلا أنها قبلت رغبة أمها بتأجيل القرار، حتى بلغت الحادية والعشرين من عمرها قبل أن تدخل.
واستمتعت بقصص الجارات، وأحبت الملابس الجميلة وظهرت بأحدث قصات الشعر، كما قامت بالعديد من الرحلات مع أختها وأمها، واستمتعت بجمال الجبال والبحر والسماء وكل الطبيعة.
واستمتعت بأصدقائها وحفلاتها وطعامها اللذيذ ولعب التنس والكروكيه والمشاركة في دورات الموسيقى المُرتجلة، وعلى الرغم من كل ذلك وكونها لا تتحدث عن الله أو تحاول لفت النظر إلى تقواها، إلا أن الله كان يشع لدرجة أن المحيطين كانوا يلاحظون ذلك بوضوح.
في تلك الفترة وبسبب جاذبيتها التي يكمن سرها في البساطة وعدم الإهتمام بهل هي الأجمل أو الأفضل بين قريناتها، تقدّم لها أكثر من شاب طالباً الزواج منها، لكنها رفضت تلك العروض لأن انتباهها كان مشدوداً بالكلية نحو دير الكرمل الذي يبعد عن منزلها حوالي 200 متر.
بالفعل التحقت بدير الكرمل في ديچو في الثاني من أغسطس 1901م وأصبحت "الأخت إليزبيث للثالوث"
في أيامها الأولى بالدير كتبت في مذكراتها تقول: "لقد رأيت الله في كل مكان أراه وأنا أقوم بالغسل، كما أراه وأنا أصلي".
واتضح لها أن حياة التأمل تعتمد في الأساس على تقبّلنا الداخلي لله ورغبتنا في الإتحاد به، أكثر من اعتمادنا على البيئة الخارجية أو الاستناد لجودة الأجواء الكنسية.
بين أخواتها بالدير، وجدت إليزايبث أوقات سعيدة، وأخرى مُحزنة بسبب المضايقات، وكذلك لكون نوبات الغضب مازالت تعاودها بين الحين والآخر واحتاجت الكثير من جهاد النفس لتكبح جماحها. وكثيراً ما كتبت في تلك المواقف تطلب فهماً أكثر ثراءاً لمحبة الله العظيمة
كانت ترى رؤىَ ذهنية رائعة في حياة التأمل، تجعلها تتأمل في حياة الثالوث الأقدس، حيث الابن يسوع المسيح يقدِّم ذاته للآب كذبيحة حُبّ ورغبة حارة في إتمام عمله على الأرض، وذبيحة هيام بالبشر، هؤلاء الذين ينفتح لهم عهد جديد بتضحيته العظيمة.
تمنت إليزابيث أن يكون كل إنسان على دراية بمسكن الثالوث الأقدس - "الفردوس الصغير" داخل نفسه، حيث تنمو علاقتنا مع الله عندما نزيح الستار عن مسكنه. وهي تشجعنا جميعاً على أن نشع بهدوء ذلك الوجود الثالوثي أينما نكون.
عن علاقتها بالإنجيل، فقد كان لديها حب شديد له. وأوضحت في مذكراتها أننا لا نحتاج إلى علماء لفهم الإنجيل. لذلك كانت تقرأ الإنجيل بحكمة وبصيرة الروح، فنمت في حب الله. كانت تحب الإنجيل بطريقة شخصية عاطفية، بدلاً من الطريقة اللاهوتية الأكاديمية. كانت تهوىَ تأمل رسائل القديس بولس ورأت فيها سرّ المسيح.
وكان ردها على كلمة الله واضحاً من خلال صداقة عميقة مع يسوع وطاعة لتعاليمه، فهي لم تبشر بالإنجيل بالكلمات لكنها عاشت معها بحياتها.
أحبت كثيراً كلمات يسوع عن الصلاة في الخفاء: "أَمَّا أَنْتَ، فإِذا صَلَّيْتَ فادخُلْ حُجْرَتَكَ وأَغْلِقْ علَيكَ بابَها وصَلِّ إِلى أَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك."
ورأت أن كل أعمال التقوى عندما تتم في الخفاء تساعد في بناء النفس والنمو نحو القداسة. ونقرأ من تأملاتها بهذا الشأن: “الصلاة هي الراحة، هي الاسترخاء. يجب أن ننظر إليه، ملتزمين الهدوء، وحياة الخفاء الأمر بسيط للغاية.
من هذا المنطلق "الهدوء والصمت" كانت شديدة الإنتباه لكلماتها، تختارها بعناية، لأنها تذكر دائماً قول يسوع: "أَقولُ لَكم إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ باطِلَةٍ يقولُها النَّاس يُحاسَبونَ عَليها يومَ الدَّينونة. أَنَّكَ تُزَكَّى بِكَلامِكَ وبِكَلامِكَ يُحكَمُ علَيك". والكلمة الباطلة في تأملات الأخت إليزبيث للثالوث لا تعني فقط الكذب بل الوشاية والعنف اللفظي والكلمات الجارحة والنقد الهدّام اللاموضوعي، وكلها أمور نقع فيها عندما لا نتدرب على الصمت وصلاة الحُجرة أو الصلاة في الكنيسة وقت خلوها من الناس بروح الهدوء والخفاء في حضرة القربان الأقدس.
قدمت نذورها النهائي عام 1903م، وبدأت صحتها في التدهور مع حلول عام 1905م.
وفى أيامها الأخيرة كانت اليزابيث تدعو نفسها" تسبيحة المجد" وقالت انه سيكون اسمها في الملكوت. ونقرأ من مذكراتها عن تخيُّلها لأبديتها: "أعتقد أن مهمتي في السماء سوف تكون مساعدة النفوس على التحرر والخروج من الذات لتتشبث بالله فقط من خلال هدوء بسيط ومُحِبّ، وإبقائهم في هذا الصمت العظيم الذي سيسمح لله بالتواصل معهم حتى يحولهم إليه".
يُلاحظ في نُسكها وتصوفها ومحتوى تأملاتها تشابهاً كبيراً بينها وبين مواطنتها القديسة تريزا للطفل يسوع راهبة الكرمل بمدينة لزيو. فكلاهما لديهما غيرة غير عادية على خلاص النفوس، وحماس كبير للتأمل والصمت والانخطاف الروحي وتدوين التأملات بإسلوب بسيط.
أصيبت الأخت إليزبيث للثالوث بمرض قصور الغدة الكظرية (مرض أديسون) وهو مرض نادر ولم يكن قد اكتُشِفَ علاجه في أوائل القرن العشرين، وقد عانت بوداعة من أعراضه المؤلمة من إضطراب الجهاز الهضمي والدوار المستمر والضعف العام وانخفاض ضغط الدم وآلام المفاصل والعضلات ونقص الوزن الملحوظ، وبرغم كل ذلك كانت تعتبر هذه المعاناة الكبيرة عطية من الله، إلى أن توفيت في 9 نوفمبر 1906م، عن عمر ناهز السادسة والعشرين، وكانت آخر كلماتها: "أنا ذاهبةٌ إلى النور، إلى الحب، إلى الحياة!" وعام 1961م، أعطتها الكنيسة الجامعة على عهد البابا القديس "يوحنا الثالث والعشرين" لقب"خادمة الرب"
وفي عام 1981م، منحها البابا القديس "يوحنا بولس الثاني" لقب "مكرمة" بعد أن ثبت للكنيسة أنها عاشت حياة كاملة من الفضيلة البطولية.
في 25 نوفمبر عام 1984م، أعلنها البابا القديس "يوحنا بولس الثاني" طوباوية.
وأعلنها البابا "فرنسيس الأول" قديسة في 16 أكتوبر عام 2016م .