قال الشاعر والفنان التشكيلي عبدالله عثمان، إن مدرسة تحسين الخطوط العربية "خليل آغا" تقف شامخة بين مدارس الخط العربي، فهي بحق عروس المدارس، ومادمنا وصفناها بـ"العروس" فلا بد من ذكر عريسها الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي، وموعد العرس كان منذ مئة عام، وتحديدًا في سنة 1922.
وتابع في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز"، أن القصة تبدأ باستقدام الملك فؤاد الأول الخطاط التركي الشهير الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي ليكتب له مصحفًا شريفًا، وعندما فرغ الشيخ من كتابة المصحف عرض عليه الملك البقاء في مصر علىٰ أن ينشئ مدرسة للخط العربي يقوم الشيخ بالتدريس فيها، وكان من بين طلاب الدفعة الأولى التي تخرجت في هذه المدرسة سنة ١٩٢٦ الخطاط المصري محمد عليّ المَكاوي، الذي وصف بأنه التلميذ البكر للشيخ عزيز، وقد كتب الشيخ له شهادة التخرج بخطه، وقام بزخرفتها بنفسه، كحالة مع باقي طلبة الدفعة الذين كان عددهم وقتذاك لا يجاوز عدد أصابع اليدين.
وواصل: وقد انضم للتدريس بالمدرسة على تتابع الأيام وتوالي الأعوام مشاهير الخطاطين المصريين في القرن العشرين مثل مصطفىٰ بك غزلان، والشيخ علي بدوي رضوان، ومحمد إبراهيم الأفندي، ومحمد رضوان علي، ومحمد غريب العربي، وسيد عبدالقوي، وسيد إبراهيم، ومحمد حسني البابا السوري الأصل، ومحمد علي المَكاوي، ومحمود الشحات، ومحمد أحمد عبدالعال، وعبدالرزاق سالم، ومحمد عبدالقادر عبدالله، ومحمد إبراهيم محمود، ومحمد حسن أبوالخير؛ وكانت لي مع بعض هؤلاء الأساتذة الأجلاء ذكريات جميلة ومواقف لا تنسىٰ، فقد حضرت متأخرًا إلى لجنة امتحان آخر العام ١٩٦٨ بالمدرسة ، ووجدت الأستاذ محمد حسني واقفًا علىٰ باب اللجنة، يومها سمح لي بالدخول، لكنه حذرني من تكرار ذلك التأخير قائلًا: "لو جيت بكره متأخر موش هدخَّلك الامتحان" في هذه الآونة كنت أمتحن أيضًا في كلية المعلمين بروكسي "كلية التربية حاليًا" وليس بين موعد انتهاء امتحاني في الكلية بروكسي وموعد بدء امتحان مدرسة الخطوط بباب الشعرية أي فارق زمني، لهذا حضرت في اليوم التالي متأخرًا رغم أنفي، ولسوء حظي لم أقابل الأستاذ حسني واقفًا علىٰ باب اللجنة، وأقول لسوء حظي لأنني عندما دخلت اللجنة وهمست في أذن زميلي الجالس على المقعد المجاور لي: أين الأستاذ حسني؟ نزل ردُّهُ عليَّ كالصاعقة: "حسني مات امبارح"
وتمنيت ساعتها لو أنه عاش ومنعني من دخول الامتحان .
وأما الأستاذ سيد إبراهيم فقد كان يصحح لي قصائدي كما كان يصحح لي خطي، ولا غروَ في ذلك، فهو عضو جماعة أبولو الشعرية التي أسسها الدكتور أحمد زكي أبوشادي سنة ١٩٣٢، وكنت في حصة الخط أقف خلف مقعد الأستاذ سيد إبراهيم لأرىٰ تصويباته وأسمع توجيهاته لجميع تلاميذ الفصل، فكنت بهذه الطريقة أحصل منه علىٰ كمٍّ كبير من المعلومات لا يحصل عليه طالب سواي.
وأضاف عثمان، أنه في السبعينيات عندما تناقص عدد المدرسين بالمدرسة سواء بالوفاة أم بالاعتزال، انضم إلىٰ هيئة التدريس بالمدرسة في العام الدراسي ١٩٧٨ / ١٩٧٩ بعد اجتيازي بنجاح امتحان مسابقة التدريس وكان ترتيبه الأول، وكان محمد عبدالقادر يقول له إنني أذكِّره بشبابه عندما دخل امتحان أول مسابقة تدريس تعقد بالمدرسة سنة ١٩٣٧ وتعادل هو ومحمد أحمد عبدالعال في مجموع الدرجات بعد أن تفوق عبدالعال بنصف درجة في خط النستعليق وعبدالقادر بنصف درجة في الخط الديواني، وقد طُلب حينذاك من الأستاذ مكاوي بصفته رئيس لجنة التصحيح أن يعيد النظر في درجاتهما لترجيح أحدهما على الآخر لحاجة المدرسة إلىٰ واحد فقط للتدريس بها، وهنا أعطانا الأستاذ مكاوي درسًا في الموضوعية، وقدم إلينا قدوة ومثلًا يُحتذىٰ في النزاهة والحيادية عندما امتنع قائلًا: "بعد ما عرفت أن دي ورقة عبدالعال ودي ورقة عبدالقادر ماقدرتش أعيد النظر في الورقتين مرة تانية"، نعم فقد تجنب مكاوي أن يحمله ميله إلىٰ أحد الشخصين على التأثير في حكمه علىٰ خطهما.
أما محمد أحمد عبدالعال كاتب أمشق المجموعة الحديثة فكان نِعمَ المدرس حيث يلقىٰ التلميذ بترحاب شديد، ويوجهه إلىٰ أخطائه في الكتابة بطريقة لطيفة هي أشبه بالإشادة والثناء منها إلى النقد والانتقاص، فكان يستقبلني كلما عرضت عليه خطوطي بعبارة: "تسلم إيدك يا سِيدِ الباشا" مُربِتًا كتفي بيده، وعندما أقول له: "إن الحرف كذا في كتابتي لم أستطع ضبطه"، أجده يلتمس لي العذر قائلًا: "عارف يابني عارف، القلم اتصدَّر في إيدك"، ولكن مجاملته إيَّايَ علىٰ هذا النحو لم تكن تمنعه من أن يبين لي جميع أخطائي بكل أمانة بعد ثنائه المجامل على ما كتبت.
وأوضح عثمان، أن اللافت للنظر في مدرسة خليل آغا أنها مدرسة عريقة طعنت في العمر وبلغت المئة عام، لكنها ما زالت شابة في قمة النشاط والحيوية، إنها تستقبل زوارها بمبناها الأثري الحافل بالفن المعماري الفريد، وبالزخارف الإسلامية الأصيلة، وعندما تدلف من بابها الرئيس تجد لوحتين رخاميتين ترحبان بمقدمك واحدة عن يمينك باسم "مدرسة خليل آغا الثانوية" بخط الراحل محمود الشحات، والأخرىٰ عن يسارك باسم "مدرسة تحسين الخطوط الملكية" بخط الراحل مصطفىٰ بك غزلان رئيس قلم التوقيع بالديوان الملكي، وتلاحظ استبدال كلمة العربية بالملكية بخط المرحوم محمد عبدالقادر، لوحتان رائعتان تمدَّان إليك أيديهما وتحتضنانك عند ولوجك من باب المدرسة.
وفي المكتبة بالطابق الثاني تبهرك اللوحات المعلقة على الحوائط وهي للشيخ عزيز الرفاعي، ومحمد إبراهيم الأفندي، ومحمد رضوان، ومحمد عبدالقادر، ولا تكاد تفيق من تأثير هذه اللوحات الباهرة، حتىٰ تجد نفسك وجهًا لوجه أمام اللوحة الرخامية التي في بدروم المدرسة والتي تحمل توقيع عبدالله الزهدي كاتب خطوط الحرمين الشريفين حيث تفتنك بحروفها وتسحرك بجمالها، فتغادر المدرسة منتشيًا ومكتشفًا في الوقت نفسه أنك لم تغادرها، إذ أنها ما تزال في داخلك، تداعب خيالك وتعطر ذاكرتك.
وأكد عثمان، عندما نذكر اسم مدرسة تحسين الخطوط العربية "خليل آغا" فنحن لسنا أمام مدرسة وحسب، إنما نحن أمام كنز من الفن الدفين تحت تراب السنين، وعلىٰ المسؤولين إزاحة الغبار عن هذه الجوهرة المكنونة والأيقونة المصونة، لأن الملاحظ أن أحوال المدرسة في الآونة الأخيرة قد تراجعت كثيرًا، وأصبحت في حاجة ماسة إلىٰ أن تمتد يد الاهتمام إليها بكل محتوياتها ومكوناتها من فصول، ومقاعد، وسُبورات، وإضاءة.. إلخ، مع رفع مكافآت المدرسين، وإلغاء الرسوم علىٰ الدارسين، فبمثل هذه الإجراءات الإصلاحية الجريئة تعود تلك المدرسة العريقة التي تحمل عبق التاريخ إلىٰ مجدها التليد، وإلىٰ تبوُّء مكانتها المرموقة اللائقة بها كمنارة مشعة في عالم الفن تجتذب إليها عشاق الخط من مشارق الأرض ومغاربها.