قال الدكتور خالد عزب، أستاذ الآثار الإسلامية، ومدير مركز الخطوط فى مكتبة الإسكندرية، إنه في العام 2022 مر قرن على إنشاء مدرسة تحسين الخطوط في مصر، هذه المدرسة الـتي أنشأها الملك فؤاد، وألحقت بمقر مدرسة خليل أغا، وتبعتها مدرسة ثانية في مدرسة الشيخ صالح أبوحديد، وكانت المدرسة ملحقة بديوان الأوقاف الخصوصية الملكية وضمت لوزارة المعارف "التربية والتعليم لاحقا" حددت الوزارة الهدف من هذه المدارس كما يلي "تحسين الخطوط العربية بأنواعها، وما يتصل بها من الفنون وإحياء ما اندثر منها، ونشرها في الأقطار العربية وإعداد أشخاص ممتازين فيها" رمز إنشاء هذه المدرسة لجهود عبر سنوات بدأت منذ عصر محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي لبناء مدرسة مصرية عربية في الخط العربي، وعندما أنشأت كان الخط العربي في مصر وصل لذروته في الإبداع والتجديد ، في وقت كانت تركيا تحارب الخط العربي رفعت مصر لواءه، وواكب هذا إعلان استقلال مصر وبالتالي كان الخط العربي الذي هو الفن المعبر عن اللغة الوطنية تعبيرا عن مرحلة الاستقلال .
وأضاف عزب، في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز"، أن المدرسة المصرية بدأت باستدعاء خطاطين من إيران وتركيا، بهدف نشر الجديد في الخط العربي بمصر، فضلا عن تزيين المنشآت المعمارية بإبدعات هؤلاء الخطاطين، ومن أبرز من جرى استدعاؤهم لمصر الخطاط الإيراني ميرزا سنجلاخ الخراساني، وهو من أعظم الخطاطين الإيرانيين خلال العصر القاجاري، وأشهر الخطاطين في العالم الإسلامي، اسمه الأصلي محمد علي البجنوردي، لقب نفسه سنجلاخ وتعني بالفارسية "الصخرة" اشتهر بإبداعاته في خط التعليق والنستعليق، كان من بواكير ما قام به قاعدة الحروف العربية التي استخدمتها مطبعة بولاق في مطبوعاتها واشتهرت بها، وكتب خطوط ميضأة مسجد محمد علي، عاش في مصر اثنين وثلاثين عاما حيث غادرها في عام 1854، ومن أهم مؤلفاته "تذكرة الخطاطين" طبع في عام 1847.
وواصل: كان عبدالغفار بيضا خاروي ثاني خطاط إيراني جاء إلي مصر في عصر محمد علي ومن المرجح أنه قدم إليها قبل العام 1824، والتحق بالعمل في دواوين الحكومة المصرية، وأحيل للمعاش في عام 1862، تشير الوثائق إلى أنه كتب نصوص النياشين وقام بتذهيبها، وكتب عبدالغفار نصوص البردة في جامع محمد علي بالقلعة ونصوص البردة بجامع البوصيري في الإسكندرية فكانت من أروع ما خلفه لنا بخط النستعليق، استدعت مصر أيضا خطاطين من تركيا لكي تضفي نكهة أخرى على الخط العربي في مصر، ومن أبرز الخطاطين الأتراك الذين جاؤوا إلى مصر محمد أمين أزميري، دخل الخدمة في الحكومة المصرية في عام 1835، كتب عدة آيات قرآنية بالخط الثلث بمداخل مسجد محمد علي، كما كتب أسماء الخلفاء الراشدين داخل المسجد بالخط الثلث الجلي، ولأمين أزميري لوحات تشهد على مقدرته المتفردة في الكتابات التشكيلية للجمل والصيغ المختلفة، مثل لوحة الأخلاص التي كتبها علي شكل دائرة، ثم كون من الحروف القائمة في السورة نجمة ثمانية تتوسط التكوين، وهناك لوحة أخري لسورة الإخلاص كتبها أمين أزميري تحمل الكثير من الأبعاد التكوينية، حيث تفرد في وضع الأية في أربعة اتجاهات أفقية ورأسية تشترك فيما بينها في الحروف القائمة الموجودة فيها، وهو أشبه بفكرة " الكتابات المتعاكسة " المعروفة لكن ببعد تشكيلي جديد ومميز ، وله لوحة أخري تتضمن دعاء باللغة التركية علي شكل دائرة تشترك فيها حروف البداية مع بعضها.
التغريب والإحياء
وأوضح عزب، أن فترة التغريب والإحياء في الخط العربي تمتد من عصر الخديو إسماعيل إلى عصر الخديو عباس حلمي الثاني، ألقت تبيعة مصر للدولة العثمانية ظلالها علي الدولة والمجتمع، فاللغة التركية كانت لغة لجزء لا بأس به من الطبقة الحاكمة في مصر، بالرغم من تعريب الخديو إسماعيل دواوين ومكاتبات الدولة التي أصبحت العربية إلا أن المكاتبات والمعاملات مع الدولة العثمانية ظلت بالتركية، مع ظهور النصوص الأجنبية خاصة الفرنسية على العمائر في تلك الحقبة كلغة موازية تعبر عن النفوذ الأجنبي وتغلغله في مصر مما أدي لظهور الفرنسية إلى جانب العربية في نصوص تأسيس المنشأت ومنها: نص البنك العثماني في الإسكندرية، كان للحضور التركي أثره في انتشار خطوط : الرقعة ، الديواني ، سياقت ، شهدت تلك الفترة إصدار أول " مشق مصري" لتعليم خط الرقعة لعبد الرزاق عوض بعنوان " الرفعة في تعليم الرقعة " طبع في فينا، كما تبلورت درسات تاريخ الخط العربي في تلك الحقبة ، ألف عبد الفتاح عبادة "انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والعالم الغربي".
كما برز عدد من الخطاطين في تلك المرحلة فمن هؤلاء: عبدالله زهدي: هو عبد الله زهدي أفندي بن عبد القادرأفندي النابلسي، وهو فلسطيني الأصل من سلالة الصحابي تميم الداري، هاجرت أسرته إلى تركيا حيث تعلم أصول وفنون الخط العربي بها، وشارك في مسابقة الخط العربي في المسجد النبوي تحت رعاية السلطان عبد المجيد الذي أشرف بنفسه على مسابقة لاختيار أفضل خطاط لتنفيذ هذه اللوحات، سافر زهدي للمدينة المنورة ونفذ أروع نماذج الخط بالمسجد النبوي خلال سبع سنوات، وما زالت أعماله باقية إلى اليوم، غير أن وفاة السلطان عبدالمجيد وانقطاع راتبه المخصص له من السلطان، دفعه للهجرة إلى مصر، فاستقبله الخديو إسماعيل وأطلق عليه لقب "خطاط مصر الأول" وذلك سنة 1866، نفذ عبد الله زهدي خطوط راقية فنيا في العديد من المساجد والمدارس ودوائر الدولة، كما درس فن الخط العربي في المدرسة الخديوية ومدارس أخرى، فتخرج علي يديه عدد كبير من كبار الخطاطين في مصر شكلوا جيل الأباء المؤسسين لمدرسة الخط العربي في مصر المعاصرة، وكتب زهدي نسخة من المصحف الشريف لحسين باشا، كما كتب عدة نسخ من سورة الأنعام والمدائح النبوية، وتوفي خطاط المسجد النبوي الشريف كما أحب أن يلقب في عام 1887، ودفن قرب قبة الإمام الشافعي في القاهرة، وما من مار بجوار سبيل أم عباس في القاهرة إلا ويذهله خطوط زهدي التي تزينه.
أما محمد مؤنس زاده: فهو محمد بن ابراهيم مؤنس، شيخ الخطاطين المصريين في زمنه، الذي أشتهر برسالته التعليمية "الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف" التي طبعت بأمر من علي باشا مبارك عام 1868، ووزعت علي طلاب المدارس، ولد في القاهرة تعلم الخط من والده إبراهيم أفندي مؤنس الذي كان خطاطا مجودا وأستاذا في هذا الفن، حتي تفوق فيه وأصبح شيخا للخطاطين، كتب محمد مؤنس زاده نسخة فريدة من مخطوط دلائل الخيرات سنة 1860، وكتب مع تلميذه محمد جعفر قبر والدة الخديو توفيق، الذي يمثل قمة الإبداع الخطي، ووقع مؤنس مع تلميذه بتوقيع في صيغة واحدة "كتبه مؤنس وجعفر"، برز من تلاميذ محمد مؤنس زاده عدد كبير من الخطاطين البارعين الذين جودوا الخط ودرسوه في المعاهد والمكاتب النظامية والمدارس، وفي مدرسة تحسين الخطوط التي تأسست عام 1922، كان معظم الأساتذة الذين اختيروا للتدريس فيها من تلامذته، ومن أبرز من تتلمذوا علي يديه: محمد إبراهيم الأفندي، وعلي بدوي، ومصطفي الغر، وعبدالفتاح خليفة، وأحمد عفيفي، وغيرهم ، لكن أبرزهم محمد جعفر الذي خط أساس حروف مطبعة بولاق، توفي محمد مؤنس زاده عام 1900.
والشيخ مصطفى صالح الغر: درس الخط في الأزهر الشريف، ولما طعن في السن اعتزل الخدمة، واعتكف بقية حياته في مسجد الظاهر بيبرس بالجمالية، اكتشف سيد إبراهيم الذي صار أبرز الخطاطين المصريين في القرن العشرين، كان سيد إبراهيم صبيا ينحت الخط على الرخام في القاهرة فمر على مكان عمله الشيخ مصطفى الغر الذي اندهش لمستواه فمنعه من نحت الخط علي الرخام ووجهه حتي صار من أبرز الخطاطين في مصر لموهبته الفطرية ثم لتعلمه لاحقا أصول الخط وقواعده، وللشيخ الغر ولدان محمد وحسين أجادا كافة فنون الخط العربي، ابنه محمد هو من كتب شاهد قبر محمد علي باشا بمسجده في القلعة، كما كتب دكة المبلغ بمسجد الرفاعي.
محمد جعفر: نبغ في الخط نبوغا غير مسبوق، كتب بخطه الثلث الجميل أغلب اللوحات التي تحمل أسماء شوارع القاهرة، وكتب بعض خطوط العملة الورقية والمعدنية المصرية، وكتب حروف النسخ لمطبعة بولاق "الأميرية" وتتلمذ سيد إبراهيم علي يديه عند تنفيذه كتابات مسجد السيدة زينب.
بينما محمد إبراهيم الأفندي: ولد من أبوين مصريين وكان جده تركي الأصل، وهو من تلاميذ محمد مؤنس زاده، كان خطاطا لمحافظة القاهرة، وعمل خطاطا في عددا من المدارس المصرية، وعمل مدرسا بمدرسة تحسين الخطوط عند تأسيسها، له إنتاج غزير غير أن معظمه مفقود للأسف، كما كتب أبجدية مبتكرة تعتمد على تغيير شكل الحرف الأول لحرف الرقعة، يعتقد أنها من تأثير الفترة التي طلب فيها الملك فؤاد ابتكار خط جديد وكان من نتاجها خط التاج.
مرحلة الإحياء والتجديد
أوضح عزب، أنها تمثل هذه المرحلة ذروة المدرسة المصرية المعاصرة في فن الخط العربي، ويمثلها بقوة الخطاط العبقري يوسف أحمد الذي كان علامة فارقة، لكن التجديد فيها جاء على يد مصطفى غزلان الذي طور شكل الخط الديواني، وانتشرت خطوطه حتي صارت علامة على المدرسة المصرية، ثم يأتي الإبداع في مصر على يد محمد حسني وسيد إبراهيم وكلاهما موهوب بالفطرة.
ويعد يوسف أحمد، باعث الخط الكوفي في العصر الحديث، والآن يقوم الخطاط الفنان صلاح عبد الخالق بإكمال المسيرة، حيث وضع مشقا للخط الكوفي المملوكي بناه على الخط الكوفي المملوكي في إيوان مدرسة السلطان حسن، ونعود إلى يوسف أفندي أحمد بن المعلم يوسف أحمد، الذي تعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم وأخذ مبادئ الحساب، وكان والده نحاتا دقيقا في صنعته حتى أشتهر أمره في بناء المأذن والقباب وكان يصحبه ابنه يوسف الذي قام بمحاكاة الخطوط القديمة في المساجد، وشجعه والده على ذلك حتى أجاد الخط الكوفي وكافة أشكاله عبر نسخ أمثلته من البنايات الأثرية، وتوج ذلك بتعيينه في لجنة حفظ الآثارالعربية عام 1891 لموهبته في الخط العربي وقدراته في تفريغ وقراءة الخطوط العربية القديمة.
ومن مآثره نص تجديد جامع عبد الغني الفخري على عضادتي المدخل فأحيا هذا التقليد الذي اندثر لعقود طويلة، ونص واجهة مسجد الإمام الشافعي وهو شريط كتابي بالخط الثلث، وتعددت نصوصه في ترميمات المساجد وأبرزها استكمال النصوص الناقصة بالجامع الأزهر، بدأ أسلوب وشخصية يوسف أحمد يتبلوران تدريجيا لنري نضجا في تنفيذه كتابات مسجد الحبشي في مدينة دمنهور التي استخدم فيها الخط الكوفي الفاطمي في الأبواب الرئيسية المؤديه إلي بيت الصلاة، والخط الثلث في الشبابيك، درس يوسف أحمد الخط الكوفي في مدرسة تحسين الخطوط كما درسه في جامعة القاهرة، وتخرج على يديه مشاهير الخطاطين مثل: محمد عبدالقادر، ومحمد خليل وغيرهما، له ثلاث رسائل مطبوعة في الخط الكوفي والعديد من المؤلفات القيمة في الآثار الإسلامية، وظل عطاؤه متدفقا إلى أن مات سنة 1942.
أما مصطفى غزلان: ولد ببلدة الباجور بالمنوفية عام 1860 م تقريبا، أخذ خطي النسخ والثلث من الشيخ مصطفى الغر، وأخذ خط الرقعة عن الأستاذ محمود ناجي الموظف بالديوان العالي السلطاني في عهد السلطان حسين كامل، والتحق بالقصر الملكي في عهد السلطان حسين كامل، وبه تعلم الخط الديواني على الأستاذ حسين حسني أفندي، وأخذ الخط الريحاني عن محمود باشا شكري، الذي كان رئيسا للديوان العالي الملكي، وعين رئيسا لقلم التوقيع بالديوان الملكي، وأصبح خطاطا لملك مصر فؤاد الأول، عرف غزلان بك بإبداعاته حتى جدد وأضاف للخط الديواني فصار يعرف من وقتها بالديواني الغزلاني، وأخرج كراسات له من الحجم الكبير والصغير، تقاعد عن العمل عام 1920، ومن مأثره كتابات خط الثلث في قاعتي العرش بقصري عابدين بالقاهرة ورأس التين بالإسكندرية، كما زين قاعة المائدة في قصر عابدين بالآيات القرآنية، وكتب مونوجرام للمك فؤاد بالخط الديواني فأصبح الشارة الملكية والشعار الرسمي، فدرس الخط الديواني بمدرسة تحسين الخطوط، وأسند له كتابة خطوط كسوة الكعبة في سنة 1937، وتتلمذ على يديه عدد كبير من الخطاطين، توفي في 13 فبراير 1938.
محمد حسني: ولد عام 1894 م بدمشق، والداه من أصول تركية وهو ينتسب لعائلة البابا، وهي أسرة عريقة ببلاد الشام لها أقدام راسخة في فنون الغناء والأنشاد وهو ما يفسر موهبة ابنتاه سعاد حسني ونجاة الصغيرة، كان محمد حسني موهوبا في الخط وهو ما اكتشفته أسرته مبكرا فدفعت به إلى الخطاط التركي يوسف أفندي رسا للقيام بتعليمه في أثناء قيامه بكتابة خطوط المسجد الأموي بدمشق، وتوفي والده وهو صغير فرحل إلى مصر عام 1912، ليكمل تعليمه للخط العربي على يد الشيخ الجمل، ليعمل في الكتابة للمطابع وإبداع اللوحات الفنية، ودرس بمدرسة تحسين الخطوط الملكية، وعمل خبيرا للخطوط بالمحاكم، كما قام بتخطيط وزخرفة كسوة الكعبة في عام 1958، فبدأ مرحلة جديدة في حياته مع الخط العربي حيث خرج في إبداعاته عن الانماط الفنية المتعارف عليها، وبدأ حوارا بين الأحرف والكلمات في مساحة اللوحة وهو ما أدي إلي تراكيب مبتكرة، في عام 1964، أرسل بناء على طلب أكاديمية الفنون في كندا بعض أعماله الفنية، فأرسل أربع لوحات تمثل اتجاهه في التركيب الخطي بالخط الثلث، وقررت لجنة علمية رفيعة المستوي منحه درجة الدكتوراة الفخرية وكان عمره سبعين عاما، توفي محمد حسني في 3 يونيو 1969.
وأكد عزب، مدرسة الخط العربي المصرية شهدت تجديدات متوالية كان من عمالقتها الفنان خضير البورسعيدي الذي يرأس الجمعية المصرية للخط العربي، وهو خطاط مجدد له إبداعاته وقد حول منزله في الجمالية لمتحف للخط العربي يزوره الزوار من كل أنحاء العالم حتى صار أحد معالم القاهرة، وهناك جيل شاب من الخطاطين الواعدين الذين يرسمون لنا الآن روحا جديدة في فن الخط العربي في مصر، ويعود الفضل في هذه الروح لمدرسة مداد للخط العربي لما فيها من نخبة من أساتذة الخط العربي ومدرسة مؤسسة الحلقة التي أسسها الخطاط المغربي المرموق بلعيد حميدي واستطاع من خلالها تكوين جيل جديد من الخطايطن من كل أنحاء العالم الإسلامي، وتعد مؤسسة القلم بالقلعة في القاهرة واحدة من المدارس الواعدة في الخط العربي وتشكل تيارا واعدا، حيث إن بها روحا شابة دفاقة ومجددة وتتنوع جهودها في الخط العربي حتى لاقت تقديرا دوليا .