قال الدكتور محمد حسن إسماعيل، الباحث وأحد قيادات مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية، إن مدرسة تحسين الخطوط الملكية "خليل أغا" أنشأها الملك فؤاد في سبتمبر سنة 1922م، هي واحدة من الصور الهامة للتدليل على مفهوم المدرسة الخطية وعناصر دراستها، وعلى الرغم من أن روادها في أول نشأتها قليلين، إلا أنها أخذت تنمو رويدًا رويدًا، حتى صارت بفضل مكانة مصر في الطباعة والنشر وقبلة للثقافة العربية ثابتة الأركان كثيرة الرواد والطلاب، يتعلم الطلاب فيها حتى اليوم فنون الخط العربي من الثلث والنسخ والرقعة والديواني والفارسي والكوفي، وما يتصل بهذه الفنون من الرسم الفني والزخرفي بجانب التذهيب، وأستجاب لهذه المدرسة النافعة بمصر مجبي الفنون الإسلامية والخط العربي من بالعراق والشام وفلسطين والسودان وبلاد الحجاز واليمن وطرابلس الغرب، وبلاد الهند الشرقية من جاوى وسومطرى، فلم يقف دورها عند مصر وفقط بل تعداه ليكون دورًا إقليميًا رائدًا.
وأضاف حسن، في تصريحات صحفية، أن الشيخ عبدالعزيز الرفاعي من أهم مؤسسيها وأول مدرسيها، وانتظم بتلك المدرسة مئات الطلاب، وقد تخرجت أول دفعة في المدرسة سنة 1925م، وكان لهذه المدرسة الفضل في تخريج رواد فن الخط العربي في مصر في القرن العشرين، ويعزى لعهد الملك فؤاد الأول الفضل، بل وله شخصيًا، في نشوء عدد من المؤسسات الثقافية التي أكسبت مصر قصب السبق في الثقافة في المنطقة العربية، صحيح أن دور الريادة الثقافية في المنطقة كان لها من قبل من خلال جامعة الأزهر العتيدة، ولكن بعد أن تغير الطابع الديني كان مطلوبًا إقامة مؤسسة حديثة تقوم بهذا الدور، فظهرت الجامعة المصرية عام 1908م ، وصحيح أن مصر ظلت مركزًا للثقافة العربية والإسلامية، غير أنه بعد اختلاط العالم العربي على نحو واسع بالثقافات الأوروبية، وتأثره بها، تطلب الأمر مؤسسة خاصة للحفاظ على مقومات لغة القرآن، ومَثل إعلان مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية ، وإلغاء الخلافة الإسلامية في 3 مارس 1924م، وإصدار قانون توحيد التعليم، وقامت الدولة بإغلاق المدارس الدينية ووكالة الأوقاف الشرعية في التاريخ نفسه، وفي سنة 1925م، منع أتباع كمال الطرق الصوفية، وأغلقوا التكايا والزوايا، ومنعوا الزي الديني والوطني، وألزموا موظفي الدولة بلبس القبعة، وتوالى فرض القوانين المخالفة للدين حتى قبل الإعلان الرسمي للعلمانية، حيث شكلت لجنة من رجال القانون لتتريك القانون المدني السويسري وأخرى لشرحه، وألغى العمل بالشريعة الإسلامية حتى في الأحوال الشخصية، و تم استبدال التقويم الميلادي بالتقويم الهجري.
وتابع: كانت مدرسة تحسين الخطوط الملكية منذ نشأتها إلى ما قبل سبتمبر سنة 1935 تابعة لإدارة التعليم بديوان الأوقاف الخصوصية الملكية، ثم ضُمت لوزارة المعارف من ذلك التاريخ فشملتها بعناية كبيرة، ووجهت إليها دعاية مشكورة فمضت قدماً في تأدية رسالتها وتحقيق الأغراض السامية التي أنشئت من أجلها، وهي التي لخصتها الوزارة في المادة الأولى من لائحة المدرسة المعدلة لسنة 1943 بأنها "تحسين الخطوط العربية بأنواعها، وما يتصل بذلك من الفنون وإحياء ما اندثر منها، ونشرها في الأقطار العربية وإعداد أشخاص ممتازين فيها". وقد اعتبرتها الوزارة إحدى مدارسها الخصوصية يتلقى فيها الطلبة الفن بالمجان، وتصرف لهم الأدوات بدون مقابل، ويكشف طبياً على راغبي اللحاق بها. ويدرس في قسم الخطوط أنواع الخط النسخ والرقعة والثلث العادي، والفارسي العادي والديواني والثلث الجلي والفارسي الجلي، والرسم، ويدرس بقسم التخصص والتذهيب الخط "وهو الذي يختاره الطالب"، والتذهيب، والرسم، والخط الكوفي.
وواصل: عمل بالمدرسة نخبة كبيرة من الأساتذة والفنانين المشهود لهم بالتفوق في الخطوط العربية والتمكن من دقائقها وهو فريق من الخطاطين القدامي الممتازين، وفريق من نابغي المتخرجين في المدرسة ويجمع محيط الطلبة بالمدرسة طبقات مختلفة، فبعضهم يحمل شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، وبعضهم شهادة الدراسة الثانوية للمدارس والأزهر، ومنهم من يحمل كفاءة المعلمين الأولية، وشهادات مدارس الصناعات والفنون التطبيقية، والتجارة المتوسطة ومنهم من لم يحصل على مؤهلات فنية، ومعظم هؤلاء وهؤلاء من الموظفين والعمال والطلبة.
تخرج في هذه المدرسة كثير من المصريين وغيرهم من أهل الأقطار الإسلامية الأخرى، كما تخرج فيها بعض الحاصلين على أجازة التدريس من دار العلوم. وعمل خريجو المدرسة في كثير من المصالح والوزارات، وخاصة المساحة والري والتنظيم بصفتهم خطاطين ورسامين، كما يشتغل بعضهم بالتدريس وبأقسام الإعلانات في الجرائد والمجلات، وغير ذلك من الأعمال الحرة المتصلة بالخط العربي وقد عينت وزارة المعارف وقتئذًا فريقًا منهم مدرسين في التعليم الابتدائي. ويمكن تحديد مساحة الإسهام الكبير لمدرسة تحسين الخطوط الملكية في خمسة مسارات أساسية، هي: "نساخة القرآن الكريم، وصورة تعليم الخط العربي، والهوية البصرية للخط العربي وذائقته، والتجديد في شخصية الخط العربي، والمحافظة على الخطوط التراثية القديمة".
وأشار حسن إلى ان نساخة القرآن الكريم تمثل واحدة من أهم الموضوعات التي أهتم بها خريجي المدرسة، بداية من الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي، والشيخ علي بدوي، ومحمد عبد الرحمن، وعبد المتعال إبراهيم، ومحمد سعد الحداد، وسيد عبد القادر "الحاج زايد"، والذي استطاع كلاً منهما أن يحقق بصمة واضحة في تاريخ نساخة المصحف الشريف في مصر، ومن مصر إلى العالم أجمع.
كذلك استطاعت المدرسة أن تعطي صورة مختلفة لتعليم الخط العربي والاحتفاء به، بداية من تجاوز مفهوم "المشق" التقليدي، إلى إخراج الكراسات التعليمية لطلاب المدارس الإبتدائية المختلفة، أو كراسة تدريب المعلمين، والتي صاغت مفهوم تربوي مهم للغاية وهو كيفية القيام بتدريس منهج للخط العربي، بل وكيفية تقسيمه تربويًا ولفئات مختلفة ومتعددة.
كذلك فقد أبدع أغلب طلاب وأساتذة المدرسة في عمل لوحات فنية مختلفة، كانت هي المثال الأكثر وضوحًا للهوية البصرية للطبقة الوسطى المصرية، والأكثر قربًا منها ومن طبيعتها، وهناك طريقتين للاستفادة من الحرف العربي، الأولى يكون الحرف فيها عنصراً تشكيلياً أساسياً في اللوحة، والثانية لا علاقة للحرف بمضمون اللوحة، إنما يكون الحرف فيها عنصراً تشكيليا فحسب. ففي المجال الأول نجد ميلاً لدى كثير من الفنانين إلى استخدام الكتابة العربية شكلاً ومضموناً بحيث تتكون اللوحة من جملة أو كلمة تكتب بالطريقة التقليدية للخط العربي، أو بطريقة فنية لا تلتزم بقواعد الخط العربي، بل إن بعضهم استخدم الكلمات للتعبير عن مضمون اللوحة بأشكال فنية غير ملتزمين بقوانين وقواعد الخط العربي.
وأوضح أن المدرسة عملت بشكل مباشر وغير مباشر على تجديد شخصية الحرف، ويمكن أن نأخذ أفيشات السينما والاستخدامات المختلفة للخطوط العربية عليها مثالاً على التجديد في شخصية الخط العربي، مع الجرائد اليومية التي كانت تكتب بالخط الرقعة، وجرى تكييف كثير على القواعد الفنية للخط لتتناسب مع طبيعة شخصية الخط والاحترام الواجب له؛ فإن التجديد لا يعني التفريط في التراث الفني والتقليدي، ويتضح مفهوم الأصالة في الفكر العربي من خلال المحافظة على تلك التقاليد المتجذرة في عمق السلوك والفكر والقيم مما يجعلها عاملاً موروثاً ومورثاً في آن واحد أي أنه ممتدًا من الماضي إلى المستقبل ومروراً بالحاضر
وهذا ما يؤكده حفاظ الخط العربي على تقاليده الفنية في قواعده وأصوله وجمالياته، فدور يوسف أحمد كواحد من أهم رواد وأساتذة مدرسة تحسين الخطوط الملكية يمثل حجر الزاوية لإعادة الحياة للخط الكوفي بعد رقدته لأكثر من ستة قرون كاملة، كذلك النماذج المتعددة التي خلفها محمد علي المكاوي بالخط الإجازة، ودور مصطفى غزلان في الخط الديواني تحكي كلها عن فصل أخر هام من فصول الاهتمام التي حققته مدرسة تحسين الخطوط الملكية كرائدة إقليمية مميزة في صياغة تعليم وفن وتذوق الخط العربي.
وأكد حسن، دور مدرسة تحسين الخطوط الملكية تجاه الخط العربي بحد ذاته كان مفارقة تاريخية وحضارية، وكشفًا هامًا لحقيقة ووجود الخط العربي داخل المخيلة والثقافة المصرية بصفة خاصة والمخيلة العربية بصفة عامة، وسرعان ما أشادت تلك المدرسة الوليدة فنًا راقيًا قائم على التعددية والتنوع، ذلك الفن الإنساني العظيم، الذي لم ينفرد بنفسه وبفلسفته ليكون وسيلة تعبير ذهنية وفقط بل تخطاها عبر نساخة القرآن الكريم، وفنون الكتاب العربي الإسلامي، والعديد من التطبيقات العملية اليومية على صفحات الصحف والجرائد، وظلت أشكاله الفنية المتنوعة غنية بطاقاتها الفنية والتجريدية إلى الحد الذي عبرت باستمرار عن المعطي الروحي الصرف للحضارة العربية الإسلامية، وذلك باستمرار ظهورها كلوحات حائطية على جدران المسجد. ودورنا اليوم هو العمل على فهم حاضر ومستقبل الخط العربي، والعمل على تأسيس أقسام للخط العربي داخل الجامعات المصرية تأكيدًا للدور المصري الرائد في هذا المجال.