القى قداسة البابا فرنسيس كلمة في اللقاء المسكونيّ والصلاة من أجل السلام في إطار زيارته الرسوليّة إلى مملكة البحرين في كاتدرائيّة سيّدة شبه الجزيرة العربيّة في عوالي، استهلها بآية من سفر أعمال الرسل.
وجاءت الكلمة على النحو التالي:
٧"بينَ فَرثِيِّين وميدِيِّين وعَيْلامِيِّين وسُكَّانِ الجَزيرَةِ بَينَ النَّهرَين واليَهودِيَّةِ وقَبَّدوقِية وبُنطُس وآسِيَة وفَريجِيَة وبَمفيلِيَة ومِصرَ ونَواحي ليبِيَةَ المُتاخِمَةِ لِقِيرِين، ورُومانِيِّينَ نُزَلاءَ هٰهُنا مِن يَهودٍ ودُخَلاء وكَريتِيِّينَ وعَرَب. فإِنَّنا نَسمَعُهم يُحَدِّثونَ بِعَجائِبِ اللهِ بِلُغاتِنا".
أخي العزيز البطريرك برتلماوس، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يبدو أنّ هذه الكلمات قد كُتِبَت لنا نحن اليوم: شعوب عديدة ولغات عديدة، من أنحاء كثيرة ومن طقوس كثيرة، نحن هنا معًا، ونحن معًا بسبب العظائم الكبيرة التي صنعها الله! في أورشليم، في يوم العنصرة، على الرّغم من قدومهم من مناطق عديدة، شعروا بأنّهم موحَّدون في روح واحدة: اليوم، مثل في ذلك الوقت، لا يشكل تنوّع الأصّول واللغات مشكلة، بل غِنى. كتب مؤلف قديم: "لو قال قائلٌ لواحد منّا: لقد قبلت الرّوح القدس، فلماذا لا تتحدّث بكلّ اللغات؟ عليك أن تجيب: بالتّأكيد أنا أتحدّث بجميع اللغات، في الواقع لقد تمّ إدخالي في جسد المسيح، أي في الكنيسة التي تتحدّث بجميع اللغات". أيّها الإخوة والأخوات هذا الأمر يصلح لنا نحن أيضًا، لأنّنا "اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا".
للأسف، لقد جَرحنا جسد الرّبّ المقدّس بانقساماتنا، لكن الرّوح القدس، الذي يوحّد جميع الأعضاء، هو أكبر من انقساماتنا الجسديّة. لذلك من الصّواب أن نقول إنّ ما يوحّدنا هو أكثر بكثير ممَّا يفرقنا، وأننا بقدر ما نسير بحسب الرّوح، بقدر ما سنتوق لكي نستعيد، بعون الله، الوَحدة الكاملة بيننا.
وأضاف البابا فرنسيس: لِنَعُدْ إلى نص العنصرة. من خلال التأمّل فيه، تردّد في داخلي صدى عنصرين، يبدو لي أنّهما مفيدان في مسيرتنا، مسيرة الشّركة والوَحدة، ولهذا أودّ أن أشاركهما معكم. هما الوَحدة في التنوّع وشهادة الحياة. الوَحدة في التنوّع.
يقول سفر أعمال الرّسل إنّ التّلاميذ كفي يوم العنصرة، كانوا "مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد". نلاحظ كيف أنّ الرّوح الذي نزل على كلّ واحد منهم، اختار اللحظة التي كانوا فيها كلّهم مجتمِعين معًا. كان يمكنّهم أن يعبدوا الله ويصنعوا الخير للقريب بشكل منفصل، كلُّ واحد وحده، ولكن في التلاقي في الوَحدة تُشرَّع أبواب عظائم الله.
إنّ الشّعب المسيحي مدعوٌ لكي يجتمع لكي تتحقّق عظائم الله. إن وجودنا هنا في البحرين كقطيع المسيح الصّغير، المنتشر في أماكن وطوائف مختلفة، يساعدنا لكي نتنبّه لحاجتنا إلى الوَحدة ومقاسمة الإيمان: وكما أن في هذا الأرخبيل، لا تغيب الرّوابط القويّة بين الجزر، ليكن كذلك أيضًا بيننا، لكي لا نكون منعزلين، وإنما في شركة أخويّة.
وتابع قائلا: أيّها الإخوة والأخوات، أتساءل: كيف يمكننا أن ننمي الوَحدة إذا كان يبدو أنّ التاريخ والعادات والالتزامات والمسافات تجذبنا إلى نواحٍ أخرى؟ ما هو "مكان اللقاء"، "العلية الرّوحيّة" لشركتنا؟ إنّه تسبيح الله الذي يبعثه الرّوح في الجميع. إن صلاة التّسبيح لا تعزلنا، ولا تُغلقنا على ذواتنا وعلى احتياجاتنا، بل تُدخلنا في قلب الآب، وتربطنا هكذا بجميع الإخوة والأخوات. إن صلاة التّسبيح والعبادة هي أسمى صلاة: إنها مجانيّة وغير مشروطة، وتجذب فرح الرّوح، وتنقيّ القلب، وتعيد التناغم، وتشفيّ الوَحدة. إنّها الترياق للحزن، ولتجربة أن نسمح لوضاعتنا الداخليّة والوضاعة الخارجيّة لأعدادنا بأن تشوِّشنا.
إنّ الذي يسبِّح لا يهتمّ لصغر القطيع، وإنما لجمال كوننا صغار الآب. إن التّسبيح، الذي يسمح للرّوح أن يسكب عزاءه فينا، هو علاج جيّد ضد الوحدة والحنين إلى الوطن. هو يسمح لنا بأن نشعر بقرب الرّاعي الصّالح، حتى عندما يُثَقِّل علينا الغياب المتكرر لرعاة قريبين في هذه الأماكن. إن الرّبّ يحبّ أن يفتح في صحارينا دروبًا جديدة وغير متوقعّة وأن يفجِّر ينابيع مياه حيّة. إن التّسبيح والعبادة يقوداننا إلى هناك، إلى ينابيع الرّوح القدس، ويعودان بنا إلى الأصول، إلى الوَحدة.
وأردف الأب الأقدس يقول سيساعدكم أن تستمرّوا في تغذيّة تّسبيح الله فيكم، لكي تكونوا أكثر فأكثر، علامةَ وَحدةٍ لجميع المسيحيّين! ولتستمر فيكم أيضًا العادة الجميلة، بأن تضعوا أماكن العبادة في خدمة الجماعات الأخرى، من أجل عبادة الرّبّ الواحد.
في الواقع، ليس فقط هنا على الأرض، وإنما أيضًا في السّماء، هناك درب من التسبيح يجمعنا. إنّه درب العديد من الشّهداء المسيحيّين من مختلف الطّوائف - وكم من الأشخاص استُشهِدوا في السّنوات الأخيرة في الشّرق الأوسط وفي العالم أجمع! وهم يشكّلون الآن سماءً واحدةً مرصّعة بالنّجوم، تُشير إلى الدرب للذين يسيرون في صحاري التّاريخ: لدينا الهدف نفسه، وجميعنا مدعوّون إلى ملء الشّركة مع الله.
لكن، لنتذكّر أنّ الوَحدة التي نحن نسير إليها، تتِم في الاختلاف. تحدد رواية العنصرة أنّ كلّ واحدٍ كان يسَمعَ الرّسل يتكلّمون "بِلُغَةِ بَلَدِه": لأنّ الرّوح القدس لا يصوغ لغة متطابقة للجميع، بل يسمح لكلِّ واحدٍ أن يتكلّم بلغات الآخرين، ويجعل كلّ واحدٍ يسمع لُغَتَهُ على لسان الآخرين. باختصار، إنّ الوَحدة لا تُغلقنا في التطابق، بل تُعِدَّنا لكي نقبل بعضنا بعضًا في الاختلافات. هذا يحدث للذين يعيشون بحسب الرّوح القدس: إذ يتعلمون أن يلتقوا بكلّ أخ وأخت في الإيمان كجزء من الجسد الذي ننتمي إليه. هذا هو روح المسيرة المسكونيّة.
وأوضح يقول: أيّها الأعزّاء، لنسأل أنفسنا كيف نتقدّم في هذه المسيرة. أنا، الرّاعي، والكاهن، والمؤمّن، هل أنا مطيع لعمل الرّوح القدس؟ هل أعيش المسكونيّة كعبء، والتزامٌ إضافيّ، وواجبُ مؤسّساتيّ، أم مثل رغبة يسوع الصّادقة في أن نصير "واحِدًا" وكرسالة تنبع من الإنجيل؟ عمليًّا، ماذا أفعل للإخوة والأخوات الذين يؤمنون بالمسيح، وهم ليسوا "من كنيستي"؟ هل أعرفهم، وهل أبحث عنهم، وهل أهتمّ بهم؟ هل أحافظ على المسافات بيني وبينهم، وأتصرّف بطريقة رسميّة، أم أحاول أن أفهم قصّتهم وأقدّر الأمور التي تُميّزهم، دون أن أعتبرها عقبات لا يمكن التغلّب عليها؟
بعد الوَحدة في الاختلاف، تابع البابا فرنسيس يقول نأتي إلى العنصر الثّاني: شهادة الحياة. في عيد العنصرة، انفتح التّلاميذ، وخرجوا من العليّة. منذ تلك اللحظة سيذهبون إلى كلّ مكان في العالم. أورشليم، التي بدت لهم نقطة الوصول، صارت نقطة الانطلاق لمغامرة غير عاديّة. والخوف الذي كان يُبقيهم منغلقين في البيت صار ذكرى بعيدة: وها هم ينطلقون الآن إلى كلّ مكان، لكن، لا لكي يميّزوا أنفسهم عن الآخرين ولا لكي يحدثوا ثورة في نظام المجتمع وفي النظام العالميّ، وإنما لكي يشعّوا، في كل مكان جمال محبّة الله من خلال حياتهم. في الواقع، إنَّ شهادة حياتنا ليست خطابًا نلقيه بالكلمات، بل هي شهادة علينا أن نُظهرها بالأفعال، والإيمان ليس امتيازًا يجب أن نطالب به، بل هو عطيّة يجب أن نتقاسمها.
كما يقول نصّ قديم، إنّ المسيحيّين "لا يعيشون في مدن معينّة، ولا يستخدمون لغة غريبة، ولا يتبنّون أسلوب حياة خاصّ، كلّ منطقة غريبة هي موطنهم يعيشون على الأرض، ولكن مواطنتهم في السّماء. يحترمون القوانين، ولكنهم بأسلوب حياتهم هم فوق القوانين. ويحبّون الجميع".
يحبّون الجميع: هذه هي العلامة التي تميّز المسيحيّ وجوهر الشّهادة. إنَّ وجودكم هنا في البحرين، قد سمح للكثيرين منكم بأن يكتشفوا بساطة المحبّة الحقيقيّة ويعيشوها: أفكّر في المساعدة التي تقدَّم إلى الإخوة والأخوات الذين يَصِلون إلى هنا، وفي حضور مسيحيّ يقدّم في تواضع يوميّ، وفي مكان العمل، شهادة التفهّم والصّبر، والفرح والوداعة، واللّطف وروح الحوار. في كلمة واحدة: السّلام.
ونوه قائلا: سيساعدنا أن نسأل أنفسنا عن شهادتنا، لأنه مع مرور الوقت يمكننا أن نمضي قدمًا بخمول ونضعف في إظهار يسوع من خلال روح التطويبات والتماسك وصلاح الحياة والسلوك السلمي. لنسأل أنفسنا الآن إذًا فيما نصلي معًا من أجل السلام: هل نحن حقًا أشخاص سلام؟ هل تسكننا الرغبة في أن نظهر وداعة يسوع في كل مكان، دون أن نتوقع أي شيء في المقابل؟ هل نأخذ على عاتقنا الجهود والجراح والانقسامات التي نراها حولنا ونحملها في قلوبنا وفي صلاتنا؟
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيّها الإخوة والأخوات، أردت أن أشارككم هذه الأفكار حول الوَحدة التي يعززها التّسبيح، وحول الشّهادة التي تقوّيها المحبّة. إنَّ الوَحدة والشّهادة هما عنصران أساسيّان: لا يمكننا أن نشهد حقًا لإله المحبّة إن لم نكن متّحدين فيما بيننا كما هو يريد. ولا يمكننا أن نكون متّحدين إن بقي كلّ واحد منا على حدة، دون أن ننفتح على الشّهادة، ودون أن نوّسع حدود اهتماماتنا وجماعاتنا باسم الرّوح الذي يعانق كلّ لغة ويريد أن يصل إلى كلّ شخص. هو يوحّد ويرسل، ويجمع في شركة ويرسلنا في رسالة. لنوكله مسيرتنا المشتركة في الصّلاة، ولنطلب منه أن يفيض علينا عنصرة متجدّدة، تعطينا نظرات جديدة وخطوات سريعة في مسيرتنا، مسيرة الوَحدة والسَّلام.