"أفكر في هذا الطفل الذي يطاردنا حتى آخر العمر، ألا توجد طريقة للتخلص منه؟"..
مساء الخميس الماضي 27 أكتوبر 2022، أسدل الستار على رحلة واحد من آباء الرواية في مصر والوطن العربي. حيث رحل عن عالمنا الروائي الكبير بهاء طاهر، عن عمر ناهز87 عاما، كانت عقودا منها هي أكثر من حياة، خطها قلمه على الأوراق لنقرأها، أو ارتبطت بأذهان من عاصروا أعماله الإذاعية في البرنامج الثقافي في الستينيات، أو شاهدوا فيما بعد أعمالا درامية مقتبسة من روائعه، مثل "واحة الغروب" أو "خالتي صفية والدير". وكلها ستظل علامة فارقة في تاريخ السرد العربي.
وقد عاب عليه النُقاد قلة إنتاجه الأدبي الذي تنوع بين القصص القصيرة والرواية والترجمة، بينما اعترف هو نفسه بأنه نادم على قلة إنتاجه، وأن العمر يركض ولا يستطيع اللحاق به كائن من كان. مع هذا، استطاع أن يحفر اسمه في تاريخ الأدب العربي، فقد تُرجمت رواياته للعديد من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية.
ولد محمد بهاء الدين عبدالله طاهر، وشهرته بهاء طاهر، في 13 يناير 1935 بمحافظة الجيزة لعائلة من الصعيد ترجع أصولها إلى الأقصر. كان الأب أزهريًا صارمًا ينحني ظهره بثقل أعباء الحياة، وكان بهاء آخر إخوته التسعة، أنجبه والده وهو في الخامسة والخمسين من عمره، وبعدها أُحيل للتقاعد وهو في عمر الستين.
أما الأم فكانت أُمية، ولكنها كانت ينبوعًا من الحنان، ونهرًا من الحكايات والقصص، والتي زرعت في طفلها الأصغر حب الحكيّ والقص. وبسببها وفضلها عليه في أمر الحكاية، كتب لها في أولى رواياته "شرق النخيل" إهداءً يرق له حنين كل من فقد أمه، أو عاش مُغتربًا بعيدًا عن حضنها.
أيضا، نشأ بهاء في ظل رماد الحرب العالمية الثانية، التي قلبت موازين الحياة، ونغصت على الناس حياتهم، حيث انزلقت أسرته من الطبقة الوسطى للطبقة الفقيرة المكلومة تحت وطأة تلك الحرب. وكان للحرب أثر نفسي على الفتى، الذي كان يصحو أو ينام على صوت الدمار ولون الدماء ووسط طلقات الرصاص، والتي حاول الهرب منها منذ طفولته إلى الأمان الذي لم ينله أبدًا إلا في حضن الأم.
شهد الكاتب الراحل في طفولته طغيان مرض "الملاريا" وكسحها لأهالي الصعيد ، والتي كانت تعرف شعبيا بـ"الشوطة". وقد اقترب المرض بشدة من الصغير بهاء طاهر إلى أن شعر حياله بأنه سيواجه نفس مصير أقربائه الذين كانوا ضحايا، وكان الخوف والهروب والإحساس بالخطر الداهم رافقه طوال حياته.
"ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ"..
درس بهاء مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي في مدينة الجيزة، ثم حصل على الثانوية العامة ١٩٥٢، والتحق بكلية الآداب ليحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص التاريخ عام ١٩٥٦، وفي نفس العام نال دبلوميْ الدراسات العليا في الإعلام والتاريخ الحديث.
ورغم أن طاهر، قبل أن ينطلق إلى فضاء الرواية الرحيب، خاض الحياة العملية كمُترجم في الهيئة العامة للاستعلامات -وهي بداية تقليدية ككثير من شباب تلك الحقبة- إلا أن الشاب كان يخط قدَره، ليصير فيما بعد واحدًا من أهم من كتبوا الرواية العربية في عصر ما بعد ثورة يوليو.
أكمل طاهر دراسته، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة الإذاعة والتليفزيون عام 1973، وكان إصراره على تعلُّم اللغة الإنجليزية حتى أتقنها هو ما أصقل ثقافته وساعد في تعدد قراءاته، وأسهم أيضًا في أن يصبح مترجمًا معروفًا منذ زمن مبكّر من حياته، ما ساعده فيما بعد على أن يطوف بلدان العالم، حتى استقر في العاصمة السويسرية جنيف مُترجمًا في مكتب الأمم المتحدة لمدة أربعة عشر عامًا.
"المسألة أني أريد أن أتكلم.. هذا المساء أريد أن أتكلم.. ألا تستبد بك أحيانًا هذه الرغبة؟"
أسهمت خبرة طاهر الإذاعية في حياته كمُترجم مُبدع. ظهر هذا عندما شارك في تأسيس ما عُرف بـ "البرنامج الثاني" في الإذاعة المصرية، والذي يُعرف باسم "البرنامج الثقافي"، حيث عمل مُعدًّا ومذيعًا ومخرجًا، وتولَّى عام 1968 موقع نائب مدير البرنامج الثاني، وأثرى عمله الإذاعي بتقديم الأعمال الروائية والقصصية عبر الدراما الإذاعية، وتعلّم بحِرفية في هذه الفترة كتابة السيناريو، وهو ما ضاعف خبراته، ليغدو الحوار عنده عنصرًا أساسيًّا يسمح للشخصية بالتعبير عن نفسها، وتمنح القارئ فرصة معرفتها والاقتراب منها وكأنه جالس معها.
كان الرئيس الراحل السادات السبب في منع بهاء طاهر من الكتابة لثماني سنوات منذ 1975 حتى عام 1983، وكان قد كتب عن هذا “في عهد الملك فاروق كان يتم حذف الأشياء التي لا تعجب الرقابة، وكان من الممكن أن يكون الجزء المحذوف جملة، وكذلك أيضًا صفحة كاملة”.
وفي عهد السادات كانت القاعدة المتَّبعة أنَّ بوسع المرء نشر أي شيء، ولكن يجب عليه تحمّل العواقب، أي أن يتم وضعه في السجن أو ألا يدفع له أجر عمله، مما كان يعني أنَّه سيضطر عاجلًا أم آجلًا إلى التخلي عن عمله. هكذا، سافر مُتنقلًا في أفريقيا وآسيا، وعمل مُترجمًا، ثم انتقل للإقامة في جنيف في الفترة من 1981 إلى 1995، حيث عمل مُترجمًا في الأمم المتحدة.
أتاحت تجربة الخروج من مصر لصاحب "واحة الغروب" خبرة جاوزت السفر والتنقل والعيش في دولة أوروبية، وهي لم تكن فقط تجربة عمل، بل وصل عُمقها إلى كتاباته لتظهر واضحة لدى قارئه، وأضافت تعددية إلى خبراته، فخلقت تنوعًا بين بيئات القصص وأجوائها.
فمن عُمق الصعيد والريف المصري، إلى حياة القاهرة بطبقاتها وأجوائها الغنية، ثم الرؤية الإنسانية، تلك التي أتى فيها بشخصيات من ثقافات وبلدان مختلفة، وجمعهم في بوتقة جديدة، هي الرواية أو القصة القصيرة، وظهر هذا بوضوح في قصصه "بالأمس حلمت بك"، و"أنا الملك جئت"، وروايته الاستثنائية في الأدب العربي "الحب في المنفى".
"أتكلم طوال الوقت، ولكن مع نفسي، في رأسي حوار لا ينقطع"
ظهرت أولى المجموعات القصصية التي تحمل اسم بهاء طاهر عام 1972 بعنوان "الخطوبة"، وقدم بعدها أعمالًا روائية وقصصية في شكل دراما إذاعية، وكتب السيناريو، وهي التجربة التي استثمرها في قصصه ورواياته، وخاصة تقنية "الحوار" الذي أجاده، وغدا عنصرًا أساسيًا في أعماله، ما سمح للقارئ بالاقتراب من شخصيات أعماله وكأنه يُشاهدهم.
لكن بسبب المنع والتضييق لم تظهر مجموعته الثانية "بالأمس حلمت بك" إلا عام 1984، ثم كتب أولى رواياته "شرق النخيل"، ثم "قالت ضحى" عام 1985، وتوالت أعماله القصصية والروائية بعد ذلك، وظهرت أغلب أعماله الروائية والأدبية في سن متأخرة نوعًا ما؛ وقد اعتبر بعض النقاد بهاء طاهر مؤسس تيار الوعي في الرواية المصرية، ورأى آخرون أنه روائي بنكهة سويسرية، باعتبار أن أهم مراحل الإبداع لديه كانت في سويسرا، وعاب عليه نقاد قلة إنتاجه الأدبي.
تزوج بهاء طاهر من امرأة سويسرية تُدعى "ستيفكا أنا ستاسوفا"، وفي كل لقاء تليفزيوني يحاول الأديب الهروب والفرار من الأسئلة الخاصة التي تدور حول الحُب، خاصة تلك الأسئلة التي تُشير الى تشابه قصة الصحفي في رواية "حُب في المنفى" الذي أحب شابه تصغره في السن مع قصة حياته هو نفسه، ولكن بهاء طاهر لم يُجب. كان يقول إنها أمور خاصة بقلبه وحده.
وكان يكتب ضمن ثنائيتين رومانسيتين لا يخرج عنهما. "الغُربة والحنين"، و"الحب وضياعه". فالغربة أمر عايشه وعاصره طوال حياته، وكذلك الحُب الذي يراه دائمًا أجمل شيء في حياته وسبب وجوده، ولكن الحُب دائمًا في رواياته ينتهي نهاية مأساوية.
"مرات الجُملة تُـكتَب والفقرة تُـكتَب والصفحة تُـكتَب. والمشهدُ يكتمل؛ كأنّ أحدَهم يُمليه عليكَ. ووقعُ الـحالِ أنه يكونَ قـد اكتملَ داخلَـك وكل ما عليكَ هو أن توسّع له قليـلًا ليخرجَ إلى الورق"..
وفي موسوعته "معجم شخصيات بهاء طاهر.. دراسة تحليلية"، تناول الكاتب والناقد مصطفى بيومي، العالم الروائي للكاتب الكبير، عبر ثلاثمائة شخصية، تضمنتها ست روايات وخمس مجموعات قصصية، هي ما أنتجته قريحته في الفترة بين عامي 1972 و2009.
ويصف "بيومي" في معجمه -الذي تخطت صفحاته الستمائة- أدب طاهر بأنه "تجربة إبداعية بالغة العمق والنضج والصدق، ولغته أقرب إلى عصير الشعر. رؤيته الإنسانية هادئة تخلو من الضجيج والافتعال"، مُشيرًا إلى أنه انتصر للناس العاديين البسطاء "الذين يتعذبون ويكابدون في صمت ينجون به من داء الابتذال".
قدّم طاهر عدة أعمال، تنوّعت بين الرواية، ومنها "خالتي صفية والدير"، و"شرق النخيل"، و"الحب في المنفي"، و"واحة الغرب"، و"قالت ضحى"، والمجموعات القصصية مثل "ذهبت إلى الشلال"، و"بالأمس حلمت بك"، و"الخطوبة"، و"لم أكن أعرف أن الطواويس تطير"، إضافة إلى دراسات أدبية ونقدية وترجمات كرائعة باولو كويهلو "الخيميائي"، إضافة إلى بعض الأعمال المسرحية.
ونال طاهر عن أعماله عدة جوائز، منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وجائزة "جوزيبي إكيربي" الإيطالية عن روايته "خالتي صفية والدير" التي تحولت لمسلسل شهير في تسعينيات القرن الماضي، وكذلك تحولت "واحة الغروب" إلى مسلسل تليفزيوني نال نجاحًا كبيرًا.