ربما وضعتني الأقدار، لسبب ما، لأكون شاهدًا حيًّا على مواقف واضحة ومحددة بين البلدين: الإمارات ومصر، وبين الزعيمين السيسي وبن زايد.. تلك الأقدار بعينها التي وضعت البلدين والزعيمين والشَّعبين أمام تحدي البقاء تحت مظلة الحضارة والمدنية الحديثة؛ فقد شاءت أقدارنا أن يصل إلى الحكم في مصر في عام ٢٠١٢ أحد أعضاء جماعة إرهابيَّة لا تعترف بقيمة الوطن، ولا بأمنه القومي، وتنتمي لروح العشيرة لا روح القومية، مصرية كانت أم عربية. كان يمكن لدولة الإمارات أن تبتعد عن «المشهد المعقد» إبانها في مصر، حينما راهن البعض في واشنطن وأنقرة ودول أخرى عديدة على بقاء الجماعة في الحكم لسنوات طويلة، غامرت أسرة «آلـ نهيان» بعلاقتها مع «دولة الإخوان»؛ لأنَّ «مصر الشعب» كانت ترفض هذا النظام «الفاشي»، وكان خيارهم الانحياز لموقف الشعب.
كان لسُموِّ الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، آنذاك ورئيس الدولة الحالي الدور الأكبر في دعم مصر قبل «30 يونيو» وبعدها، اختار وأعلن موقفه منذ البداية، فكان «العدو الأول» لجماعة «الإخوان» الإرهابية ومن يواليهم من التنظيمات المتطرفة في المنطقة العربية كلها.
افتتح «بن زايد» المواجهة مع الجماعة الإرهابية، وكان أحد أهم معاول هدم مشروعها في المنطقة والعالم، بل وقف في خط المواجهة الأمامي مغامرًا بحياته، مدفوعًا في ذلك بإدراكه لـ«حقيقة أهدافهم»، ومخططاتهم، ودولتهم المزعومة. وإن احتسب لمحمد بن زايد هذا الموقف تجاه مصر لكفاه حُبًّا وعِرفانًا بالجميل، في الوقت الذي تنكَّر فيه الكثيرون لمصر العظيمة ووقفوا في جبهة مَن اختطفوها.
في ذلك الوقت لعب الرجل دورًا كبيرًا في كشف «ألاعيب الإخوان» وسعيهم لتقسيم المنطقة العربية، لم يتأخر لحظة في الدفاع عن أمَّته العربية ضد «الهجمة التترية الإخوانية»، وحمل وحده عبء المواجهة في ظروف صعبة كان الإخوان فيها يتحكَّمون في أكبر دولة عربية؛ وهي مصر.
ما الذي دفع «محمد بن زايد» ودولة الإمارات لاتخاذ هذا الموقف؟
كان محمد بن زايد يؤمن إيمانًا عميقا، صرَّح به لي شخصيًّا في أكثر من مناسبة؛ بأنَّ مصر ستتخلص عاجلًا أو آجلًا من حكم «الإخوان»؛ ولهذا رفض رفضًا قاطعًا التعاون معهم أو استقبال قادتهم، فلم تفرش الإمارات «السجاد الأحمر» لـ«مرسي»، بتعبير الفريق ضاحي خلفان، قائد شرطة دبي الأسبق مرة واحدة طوال مدة حكمهم.
وعندما أراد خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للجماعة الإرهابية، الذهاب إلى الإمارات من أجل فتح ما اعتبرته الجماعة «صفحة جديدة»، رفض «الشيخ محمد بن زايد» استقباله، وظل «الشَّاطر» ثلاثة أيام في الفندق من دون لقاء أي مسئول إماراتي، ثم عاد إلى القاهرة بـ«خُفَّي حُنين».
وقتها بدأت الجماعة إستراتيجية جديدة تقوم على اختراق الإمارات بـ«عناصر نائمة»، غير أن يقظة الجهاز الأمني وقفت للمُخطَّط بالمرصاد، فأُلقي القبض على أكبر مجموعة منهم، وقُدِّموا إلى المحاكمة في عِزِّ سطوة الجماعة، بل رفضت الإمارات كل «توسُّلات مرسي» بالإفراج عنهم، ووصل الأمر إلى رفض استقبال مكالماته.
وعندما أرسل مرسي بمندوبه، عصام الحدَّاد، مساعده للشئون الخارجية، إلى الإمارات يرجو لقاء أي من المتهمين في «خلية الإخوان»، رفضت السطات طلبه، وطردته من أبوظبي.
المواقف كثيرة ومتعددة بين البلدين والزعيمين، فالرَّجلانِ «السيسي وبن زايد» -من وجهة نظري ونظر كل المتابعين لشئون المنطقة- يتمتَّعان بفكر نابِهٍ، ويمتلكان إستراتيجية واحدة، ويتطلَّعان لأهداف مشتركة؛ يظهر ذلك جليًّا من خلال كل اللقاءات التي جمعت بين الزعيمين، سواء هنا في القاهرة أو هناك في أبوظبي، ومقولة السيسي التي ردَّ بها على كلِّ مواقف الشيخ محمد المشرفة، والتي كان يعنيها جيدًا عندما لاحت لحظة خطر تتعلق بالخليج بشكل عام ودولة الإمارات بشكل خاص، أكد السيسي وقتها أنَّ «أمن الخليج هو أمن قومي لمصر، والمسألة مسافة سكة».. لقد لخَّص السيسي وقتها بجملة واحدة عمق العلاقة بين البلدين وقبلها بين الزعيمين.
غريبة هي العلاقة الروحية، والامتزاج بين مكونات الشخصية المصرية والإماراتية، علاقة حب وود قلَّما نجدها بين شعوب العالم والمنطقة، وتظل كلمات وتصريحات الشيخ محمد شاهدة على ذلك حينما أكَّد في أكثر من مناسبة، أنَّ الإمارات ستظل على عهدها وفيَّة لمصر وسندًا قويًّا لها، مضيفا: أنَّ رؤية القيادة في دولة الإمارات نحو مصر الشقيقة تتركز في تحقيق الشعب المصرى لطموحاته وتطلعاته الوطنية ومواصلة بناء مستقبل وطنه وتحقيق الاستقرار والتنمية في كل ربوع أرض الكنانة.
ويردُّ السيسي في أكثر من مناسبة مُعبِّرًا عن حبِّ مصر لشعب وقيادة الإمارات ووقوفها بجانبها في أيِّ أزمة حتى لو أدَّى الأمر إلى حمل السِّلاح، أو بتعبير الرئيس الذي سبق أن ذكرناه، «إنَّها مسافة السِّكَّة».
تحيَّة للبلدين وللشعبين وللزعيمين وهم يحتفلون بالذِّكرى الخمسين للعلاقات المصرية الإماراتية، ومعًا سنحتفل وسيحتفل أحفادُنا وأحفادُ أحفادِنا بالذِّكرى المائة والمئتين والألف بإذن الله.