الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

هل يمكن توحيد الرأي الديني؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

[email protected]
لقد نشأت التخصصات في علوم الدين، وكذلك المذاهب الدينية المختلفة، تاليةً لنشأة واكتمال الدين ذاته، بل وبعد رحيل من حمل إلينا الرسالة من السماء إلى الأرض. ينطبق ذلك على ديننا الإسلامي الحنيف، كما ينطبق على غيره من الديانات السماوية؛ بل وكذلك -بصورة قد تبدو مختلفة- على العقائد الأيديولوجية الشاملة، التي لم يزعم لها أصحابها صلة ما بوحي تلقّاه منشئها من السماء.
وإذا كان استيعاب كتاب علمي متخصص يحتاج إلى من يقوم بتبسيطه لكى يصل إلى العامة، ولا يجد صاحبه حرجًا في أن ينسب له العامة غموض نظريته وقصور عقولهم عن استيعابها؛ باعتباره قد طرح أفكارًا متخصصة لأقرانه من المتخصصين؛ ومن ثم لا يجد أحد من العامة حرجًا في أن يطلب من متخصص في الفيزياء مثلاً أن يشرح له نظرية النسبية أو الفيمتو ثانية، كما أن أحدًا لا يجد حرجًا في أن يوصف بأنه غير متخصص في الفيزياء؛ وبالتالي فليس له أن يتوقع النظر إلى رأي يبديه في هذا المجال باعتباره فرضًا علميًّا جديرًا بالفحص والاختبار.
ترى هل يمكن أن تنطبق مقولة “,”التخصص“,” بهذا المعنى المحدد على كتاب سماوي موجه للبشر كافة دون تمييز بين العامة والمتخصصين؟ وبصرف النظر عن الإجابة؛ فإن شواهد الواقع العملي التاريخي يجسد حقيقة أن كافة الأديان دون استثناء عرفت ظاهرة “,”المتخصصون“,” في تفسير الكتب المقدسة وأحاديث الأنبياء. والجميع يعرف أيضًا ما نجم عن ذلك من نشأة الفرق والمذاهب التي يتفق أصحابها على قداسة النص الإلهي وأنه موجه للبشر جميعًا، ويصرون رغم ذلك على القول بأنهم الأكفأ والأقدر على التوصل للتفسير الصحيح لمقاصد ذلك النص، ثم يختلفون بعد ذلك في تأويلاتهم للنص المقدس، وقد تصل خلافاتهم تلك إلى حد التكفير بل والتقتيل، وقد تلتزم حدود الاختلاف الفكري ولكنها لا تتنازل قط عن تمايزها؛ فلم يعرف التاريخ قط اندماجًا فكريًّا لمذهبين أو فرقتين دينيتين بحيث يذوبان في بعضهما ويتبنيان فكرًا واحدًا، كما يحدث أحيانًا في مجال الأحزاب والفرق السياسية.
ولعل الأمر كان محدودًا بدرجة أو بأخرى في عصر وسائل الاتصال الشفهية والمكتوبة، ولكن في ظل عصر ما يعرف بالانفجار الإعلامي، وما تضمنه من يسر غير مسبوق في بث المعلومات واستقبالها، كان من الطبيعي أن تتعدد القنوات والبرامج الدينية؛ ومن ثم تتعدد الفتاوى الدينية، بل وتتضارب في كثير من الأحيان، وأصبحنا حيال ما يشكو منه البعض باعتباره فوضى الفتاوى؛ ومن ثم يطالبون بتوحيد الفتوى.
إننا نعيش في عالم تنفتح فيه السماوات الإعلامية وتزداد اتساعًا، فهل ثمة إمكانية لتوحيد مصدر الفتوى؟ هل يمكن أن نتصور إمكانية أن يجلس أهل الاختصاص –ولو في كل دين على حدة- على تعدد مذاهبهم واتجاهاتهم ليتفقوا على مواصفات محددة للفتوى الصحيحة؟
وإذا كان ذلك مستحيلاً، وهو مستحيل بالفعل، فهل المطلوب مثلاً اتخاذ قرار حكومي بإغلاق القنوات الشاردة؟، وحتى لو كان ذلك ممكنًا بالنسبة لحكومة بعينها؛ أتراه ممكنًا، أو حتى مرغوبًا، بالنسبة لغيرها من الحكومات؟
وحتى إذا ما افترضنا إمكانية حدوثه –وقد حدث ذلك بالفعل في بعض الدول- ألا يعني ذلك إغلاق باب الاجتهاد والتعدد، والدفع بالاجتهادات المعترضة إلى التقاتل؛ سعيًا إلى تفعيل مقولة “,”من غلبت شوكته وجبت طاعته“,”، أو إلى التكتم والعمل تحت الأرض؟
إن عامة المتدينين، وهم الغالبية، يجدون أنفسهم في موقف فكري مربك: إنهم حريصون على تبين الرأي الديني “,”الصحيح“,” في أمور حياتهم، ولا تتوافر لديهم المعرفة المتخصصة التي تمكنهم من المفاضلة بين الفتاوى؛ وبذلك لا يصبح أمامهم سوى واحد من تلك السبل:
الاعتماد على تقديرهم الذاتي لشخص الداعية وجاذبيته الإعلامية وسمعته الشخصية: زهده، بساطته، تاريخه الجهادي... إلى آخره.
الاعتماد على مدى اقتراب “,”الفتوى“,” من استعدادهم وتكوينهم النفسي: التشدد، التسامح، الموقف من المرأة... إلى آخره.
الاعتماد على مدى اقتراب “,”الفتوى“,” من توجهاتهم السياسية: كالموقف من النضال الفلسطيني، أو الموقف من معارضة أو موالاة السلطة... إلى آخره.
الاعتماد على ما تحمله “,”الفتوى“,” من تبرير لممارساتهم الحياتية الفعلية: تبرير الرشوة بضرورات الحياة مثلاً.
أن يولي المرء ظهره لتلك الفتاوى جميعًا، وأن يقدم على مخاطرة “,”التفسير الذاتي“,” للنص المقدس، وهو ما يلجأ إليه الكثيرون.
خلاصة القول أن توحيد الفتوى أمر لم يعرفه التاريخ إلا مرتبطًا بالسلطة الغاشمة التي تسعى لإسكات كل صوت معارض، وتوظيف الفتوى الموحدة لصالحها.