أثارت مذكرة التفاهم التي أبرمتها تركيا، في الثالث من أكتوبر الجاري، مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، بشأن التنقيب عن الغاز والنفط، ردود أفعال من قِبل العديد من الدول، وكذلك الأطراف الداخلية، إذ أعلن كل من مصر واليونان رفضهما لتلك المذكرة، ومعارضتهما أي نشاط في المناطق المتنازع عليها في شرق المتوسط، كما أعرب الاتحاد الأوروبي عن رفضه لها.وجاءت مذكرة التفاهم الموقعة بين تركيا، وبين حكومة الدبيبة، مستندة إلى الاتفاق الذي وقعته أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية السابقة برئاسة فايز السراج قبل نحو ثلاث سنوات.
واعتبر الاتحاد الأوروبي أن الاتفاقية تشكل انتهاكًا لقانون الأمم المتحدة للبحار، والحقوق السيادية لعدة دول، داعيًا إلى تجنب أي أعمال تهدد الاستقرار الإقليمي.
ومن جهته، أعلن البرلمان الليبي برئاسة عقيلة صالح، رفضه الاتفاقية، وبعث برسائل إلى كل من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، أكد خلالها أن تلك الصفقة غير ملزمة للدولة الليبية، مطالبًا بعدم الاعتداد بها، كونها صادرة عن حكومة منتهية ولايتها، ومحذرًا من أنها تشكل تهديدًا للاستقرار في منطقة شرق المتوسط، أما المجلس الرئاسي الليبي، برئاسة محمد المنفي، فاعتبر أن أي اتفاقيات دولية يجب أن تُبرم من خلال المجلس.
استغلال الانقسامات
توقيع الاتفاقية، بين تركيا وحكومة الدبيبة في هذا التوقيت، يعكس استغلال تركيا الانقسامات بين حكومتي الدبيبة وحكومة فتحى باشاجا المعومة من البرلمان، إذ استفادت من الضغوط الحادة التي تعاني منها حكومة الدبيبة ومساعيها لضمان استمراريتها في السلطة، من أجل الحصول على تنازلات عديدة تعزز نفوذ أنقرة في ليبيا، كما أنها تؤمن احتياجات الأخيرة من النفط والغاز خلال الفترة المقبلة، لاسيما في ظل أزمة الطاقة العالمية والأسعار المرتفعة بشكل مطرد.ومن أهم مكاسب تركيا من هذا الاتفاق، استخدامه "ورقة ضغط" على أوروبا، في ظل أزمة الطاقة العالمية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، كما أنها ترسخ نفوذها في ليبيا في المرحلة المقبلة، بالتزامن مع الجهود التي يبدأ بها المبعوث الأممي الجديد، عبدالله باتيلي، وبالتالي فإن مذكرة الطاقة التي وقعتها أنقرة مع حكومة الدبيبة تعني أن الأولى تسعى لضمان استمرارية وجودها في ليبيا مستقبلا، بغض النظر عن السلطة المقبلة أو أي ترتيبات يتم التوصل إليها.
دلالات التوقيع
وعكست مذكرة التفاهم بين تركيا وبين حكومة الدبيبة، العديد من الدلالات، أهمها تخليها عن سياسة الحياد في علاقتها مع الأطراف الليبية، إذ كانت تتواصل مع الجميع، وسعت إلى لعب دور الوساطة بين فتحي باشاغا رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي، وعبد الحميد الدبيبة؛ ثم جاءت التحركات التركية الأخيرة لتضع حدًّا لهذا التوازن، ولتكشف عن الخيار التركي المفضل في ليبيا، وهو الانحياز لحكومة الدبيبة.
ويكرس التقارب التركي الليبي، التنافس والاستقطاب الإقليمي، في ظل الرفض الواسع لمذكرة التفاهم تلك، ويرجح أن تواجه أنقرة تحديات كبيرة في منطقة شرق المتوسط، لاسيما مع الانتقادات الأوروبية والأمريكية الأخيرة.
بؤرة للتنافس الإقليمي
ويبدو أن ليبيا ستشكل بؤرة للتنافس الإقليمي الحاد خلال الفترة المقبلة، وتكريس لحالة من الاستقطاب بين دول المنطقة، عبر تشكيل تكتل إقليمي داعم لحكومة فتحي باشاغا، مقابل تكتل آخر تقوده تركيا لدعم حكومة الدبيبة، كما أن الاتفاقية تعمق الانقسامات الداخلية بين الأطراف الليبية، خاصةً مع إعلان غالبية الأطراف رفضها الاتفاق، ما ينذر بتأجيج مزيد من الصراعات الداخلية، وعرقلة محاولات التسوية السياسية للأزمة الحالية.
وتعكس التحركات اليونانية الراهنة والرفض الخارجي الموسع لمذكرة التفاهم التي وقعتها أنقرة مع حكومة الدبيبة، مؤشرات على احتمالية أن تشهد الفترة المقبلة مزيدًا من التنسيق بين دول منظمة غاز شرق المتوسط، للحيلولة دون فرض تركيا لسياسة الأمر الواقع، حيث يُتوقع أن تسعى دول المنظمة إلى صياغة موقف جماعي تجاه التحركات التركية.وهناك ثمة تحذيرات من الانعكاسات المحتملة لتصاعد التوترات الراهنة بين تركيا واليونان، العضوان في حلف الناتو، ما قد يزيد من حدة الاستقطاب بين دول الحلف، في ظل توقع تصاعد وتيرة الخلافات بين القوى الأوروبية والولايات المتحدة من ناحية، وتركيا من ناحية أخرى، خاصة بعدما قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نشر طائرات بدون طيار في قبرص التركية، مؤكدا أن أنقرة تعمل على زيادة وجودها العسكري في قبرص، وذلك بعدما رفعت واشنطن الحظر على إمدادات الأسلحة إلى قبرص اليونانية، في ظل التوترات المتصاعدة بين الجانبين في بحر إيجة.