تحتفل الكنيسة الكاثوليكية بالقديس لوقا الإنجيلي الذي خرج من أنطاكية عاصمة البلاد السوريّة. وكان طبيبًا، ولم يكن يهوديًّا، بل كان يونانيًّا من عبدة الأوثان. وانتحل لوقا الإيمان على أيدي التلاميذ الذين نزحوا من أورشليم، وأتوا أنطاكية وأخذوا يبشّرون باسم يسوع، نحو سنة 35، أي عقب الاضطهاد الذي أثاره اليهود على الكنيسة فقتلوا أسطفانوس رجمًا بالحجارة.
ولقيه بولس في سفرته الثانية في مدينة ترواس، فوجد فيه ضالته، وأحبّه، واتّخذه رفيقًا له. ولكن يظهر أن لوقا رافق بولس إلى مكدونيا وإلى فيلبي، ومكث هناك. لأنّه في كتاب الأعمال يستعمل صيغة المتكلّم في روايته إلى حين وصوله إلى مدينة فيلبّي، ثم يعود فيستعمل صيغة الغائب في كلامه عن القديس بولس ورفاقه.
وفي أواخر سفرة القديس بولس الثالثة يتقابل الرسولان معًا في فيلبي أيضًا، ومنذ ذلك الحين يعود لوقا إلى ملازمة بولس، وتعود صيغة المتكلّم في كتاب أعمال الرسل. وبقي لوقا برفقة الرسول بولس ربما حتى آخر أيام هذا الرسول العظيم. فعاد معه إلى أورشليم، ولبث بالقرب منه، في قيصريّة، مدّة سنتين. فكان يخدمه ويواسيه ويأتمر بأمره، ويكتب تاريخ أعماله بكل غيرة وتجرّد وتفانٍ. ثم أقلع معه إلى رومة، لمّا ذهب بولس إليها مخفورًا، واحتمل معه شدائد الزوابع في البحر، وبقي بقربه في رومة مدّة الأسرَين الأول والثاني. إلاّ أن لوقا لم يُسجن مع بولس نظير أرسترُخس، بل بقي حرًّا طليقًا، وكان الخادم الأمين والصديق الوفيّ الحبيب.
أمّا عن بقيّة حياته فلا نعلم شيئًا. وهذا دليل كبير على ما اتّصف به ذلك الرسول الإنجيلي من الفضائل السامية، وأخصّها الغيرة الرسوليّة المقرونة بالتواضع العميق. فمع أنّه كتب الإنجيل الثالث، ووضع كتاب "أعمال الرسل"، وذكر ببعض الأسهاب ما حدث للرسول بولس في حياته الرسوليّة، قد أغضى عن ذكر نفسه، وسكت عن أعماله، حتى لقد ترك شيئًا من الشك يحوم حول شخصه ورسالته.
أن لوقا لم يعاين يسوع، ولا سمع كلامه، ولا تعلّم الإيمان منه بوحي خاصّ، كما جرى لبولس الرسول، لكنّه اعتمد في كتابة إنجيله على وثائق خطيرة ثابتة، منها كتابيّة ومنها شفهيّة.
أمّا الكتابيّة فهي إنجيل متى وإنجيل مرقس اللذين سبقاه في الكتابة، ثم بعض الكتب الخاصة التي منها استقى ما كان صحيحا ومقبولا في الكنيسة، ونبذ ما وجد فيها محرّفًا ومختلفًا. أمّا الشفهية فهي ما سمعه من بشارة الرسول في رحلاته الرسوليّة، ومن كرازة الرسولين بطرس وبرنابا في أنطاكية، ومن أحاديث الشمّاس فيلبّس في قيصريّة، ومن كلام القديس يعقوب أخي المسيح في أورشليم، ولاسيّما ما استقاه من فم البتول مريم أم يسوع، كما يعتقده جمهور الكتبة والمفسّرين. لأن ما تركه لنا من بدائع الكلام عن الحبل بالنبي السابق وولادته، وعن بشارة البتول مريم وزيارتها لنسيبتها إليصابات، وعن التجاء العائلة المقدّسة إلى بلاد مصر الآمنة هربًا من غضب هيرودس، وعن حداثة يسوع في بيت يوسف ومريم، لم يتوصّل إلى معرفته بتلك الدقّة والصراحة والأمانة في الرواية إلاّ من فم تلك التي "كانت تحفظ ذلك الكلام كلّه في قلبها".
وكتب لوقا إنجيله باسم "العزيز ثاوفيلس". ولكن يغلب على الظن أن ثاوفيلس هذا إنّما هو اسم مستعار، أراد به لوقا جماعة الأمم المتنصّرة وجماعة اليهود الذين آمنوا أيضًا بيسوع، وبوجه عام كل نفس تحب الله أو محبوبة لديه.
أمّا غايته فهي تاريخية ودفاعيّة معًا، بحسب ما جاء في فاتحة إنجيله، إذ يقول: "...رأيت أنا أيضًا، بعد أن أدركت جميع الأشياء من الأول بتدقيق، أن أكتبها لك بحسب ترتبها أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحّة الكلام الذي وُعظت به".
ولا يُعرف بالتدقيق متى وضع لوقا إنجيله. ولكن من المؤكّد أنّه وضعه قبل السنة السبعين. واختلف الرواة في أمر المكان الذي كتبه فيه، لكن هذا شيء لا قيمة له في نظر التاريخ.
ومن مميّزات هذا الإنجيل الثالث أنّه يصلح أن يُدعى بحقّ إنجيل الرحمة، لأنّه يذكر كثيرًا من الحوادث التي تدل على حنان يسوع ورحمته نحو الخطأة، والتي تبيّن على الأخص عطفه نحو الأمم، وذلك لكي يصبّ في قلب الأمم المنتصرة عواطف الرجاء والثقة بالسيّد المسيح. أن إنجيل القديس متى يبيّن أن يسوع هو المسيح المنتظر، وإنجيل القديس مرقس يقدّمه للرومانييّن أمّا إنجيل القديس لوقا فهو رسم بديع ليسوع بصفته طبيب البشريّة ومخلّص العالم.
هو مجموعة الحوادث التاريخيّة التي أوحاها الله، ووضعها القديس لوقا الرسول بالكتابة ليبيّن كيف نشأت الكنيسة، وكيف انتشرت بين اليهود والأمم، وماذا كان إيمانها وتعليمها.
لكن اسم الكتاب هو أعمّ من الموضوع الذي يُعنى به. لأن هذا الكتاب لا يحتوي على تاريخ أعمال الرسل أجمعين، بل يقتصر على ذكر بعض الحوادث التي جرت للهامتين بينهم، أعني بطرس وبولس. فشخص بطرس يملأ الفصول الإثنى عشر الأولى، وأعمال بولس هي موضوع الفصول الستة عشر الباقية.
وأن عمل لوقا في وضع هذا الكتاب لعمل خطير، لأن كتاب الأعمال هو تتمّة لكتب الأناجيل، وهو نور يضيء ما غمض وصعب فهمه من كتاب الرسائل، ولاسيّما رسائل القديس بولس، وهو مجموعة بديعة للعقائد المسيحيّة كما بدأ الرسل يبشّرون بها وينشرونها بين الشعب.وهو كتاب يجد فيه المؤمن المتعبّد أسمى التعاليم الروحيّة، وصورة حيّة للفضائل المسيحيّة التي امتاز بها القديسيون والمؤمنون الأولون، نظير الغيرة والتجرّد والسخاء وكرم النفس والصبر على الشدائد. فمطالعة هذا الكتاب لذيذة على القلب شهيّة، فلا يملّ القارئ من العودة مرارًا إليها، والاستفادة منها.
وبعد استشهاد معلمه القديس بولس، أخذ يطوف البلدان الكثيرة، كما يقول القديس ابيفانيوس، مبشرًا بإيمان المسيح الذي ردَّ كثيرين من الأمم. وبعد جهاده هذا المجيد رقد بالرب سنة 90 للميلاد.