ما بين الإعجاز العسكري الذي قام به الجيش المصري في حرب أكتوبر عام 1973، ومحاولة توثيق هذه الملحمة، جاءت العديد من الكتابات التي أظهرت جانبا من سنوات العمل الشاق -خاصة مذكرات قادة الملحمة- وحتى بعد انتهائها، فإن الحرب ذكرى لا تُمحى من أذهان الناجين من آتونها، فيظل الجميع يحيا في سياق وثيق الارتباط بالتجربة التي خاضوها كجنود، ويُشكّل أثر الحرب على هؤلاء موضوع هام للعديد من الأعمال الأدبي.
وعلى عكس كل ما كُتِب في سنوات الاحتلال الست التي سيطرت فيها إسرائيل على أراضي سيناء من كتب ومقالات وروايات، والتي كانت تُرسّخ يومًا بعد الآخر لدى المواطن الإسرائيلي وحليفه الغربي أسطورة الجيش الذي لا يُقهر؛ اختفى من الروايات الإسرائيلية الّتي تناولت حرب أكتوبر أي إيحاء بالفخر أو النّصر، فخرجت أغلبها مليئة بالسوداوية والحزن، عاكسة صورة المجتمع الإسرائيلي الذي استيقظ على مفاجأة دمّرت كل ما ظل قادته يُلقنوه إياه منذ بنى دولته على أرض لا تخصه.
"مشير النصر".. حكاية المراحل النهائية من الخداع الاستراتيجي
يرتبط اسم الراحل المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية أثناء حرب أكتوبر 1973، بالمرحلة الأخيرة من التجهيز للحرب. حيث تولى منصبه في أعقاب إقالة الرئيس أنور السادات للفريق محمد صادق، واستدعاؤه لتولي الوزارة، في الوقت الذي كان يشغل فيه منصب مدير المخابرات العامة.
في مذكراته "مشير النصر"، يروي إسماعيل جوانب عدة من حياته. كتب بعضها خلال عمله بالجيش، ثم توقف خلال توليه رئاسة جهاز المخابرات العامة، وعاد ليكتب آخر أوراقه عن حرب أكتوبر في شهر أكتوبر 1974. عندما شرع في كتابتها، لم يكن يقصد نشرها للجمهور، بل كان مهتمًا أن تعرف أسرته ما حدث. لكن القدر ساقها لتُنشر للجمهور.
جاءت الأوراق لتحمل كثيرًا من تواضع الرجل، فالمشير الذي تنقل بين العديد من المناصب العسكرية الهامة، لم ينسَ أن يذكر في أوراقه بامتنانٍ سائقه الشخصي، ورجال الأمن على مدخل جهاز المخابرات. ولم يكتب شيئًا لا يليق عن الآخرين ، سواء المشير عبد الحكيم عامر، أو مراكز القوى، أو حتى الفريق سعد الشاذلي الذي اختلف معه بشأن ثغرة الدفرسوار.
ووفق المذكرات، كان تولي إسماعيل رئاسة المخابرات، قصد به الرئيس السادات إعداده لقيادة الجيش بطريقة مبنية على معلوماتٍ واضحة، فقد أشرف إسماعيل على قيادة الجهاز في أخطر مراحله؛ وهي إدارة حرب المعلومات التي مهدت للعمليات العسكرية.
ورغم قصر مرحلة توليه رئاسة الجهاز، فقد أشرف إسماعيل على حملة مكثفة لمقاومة التجسس، شملت إسقاط عدد كبير من الجواسيس. من أهمها هبة سليم -التي تحولت قصتها إلى فيلم سينمائي يحمل اسم "الصعود إلى الهاوية"- موضحًا أنه بسبب ذلك الكم الهائل من قضايا التجسس، قرر أن يستخدم الأمر لإيذاء إسرائيل، من خلال تأسيس ما أسماه بـ "إدارة الخداع"، لتسريب معلومات مضللة للعدو بشكل منظم. هذه الإدارة، كانت العقل المدبر وراء عملية الخداع الاستراتيجي التي نفذها رجال المخابرات قبيل المعركة.
وذكر المشير الراحل أن عمليات الخداع تمت بتنسيق مع عملاء مصريين متمركزين داخل إسرائيل، وكان أحدهم قد جند أكثر من عشرة ضباط إسرائيليين، نقلوا للمخابرات المصرية خرائط النابالم، والألغام، وتمركز الأسلحة في خط بارليف. فيما بعد عرفنا أن ذلك العميل هو رفعت الجمال، والذي عرفته الدراما المصرية باسم "رأفت الهجان".
ومن النقاط الهامة في المذكرات، الحديث عن ثغرة الدفرسوار ، فبعد أن هاجم الإسرائيليون السويس، في خرق لوقف إطلاق النار، قرر المشير وضع خطة استنزاف، ذكر فيها حجم خسائر الأرواح على الجانب الإسرائيلي، الذي بات وجوده على المحك، بعدما ضاق عنق الإمداد لأقل من ستة كيلومترات. وكانت ألويته السبعة محاصرة بخمسة فرق مصرية من كل الجهات، بالإضافة إلى خمسة فرق أخرى على الضفة الشرقية. وهو ما وصفته مراسلات وزير الخارجية الأمريكي- آنذاك- هنري كيسنجر مع نظيره الإنجليزي يوم 3 نوفمبر بأنه وضع كارثي للإسرائيليين"، هدد بإفناء القوات الإسرائيلية هناك.
وأشار إسماعيل إلى أن خطة سحق الثغرة كانت جاهزة للتنفيذ بالفعل منذ أول أسبوع في نوفمبر، وقد ذكر أيضاً أن خطة أخرى كانت تنتظر الإسرائيليين على الضفة الشرقية، لكن دواعي الأمن القومي منعته من ذكر تفاصيلها. ولم يعرفها أحد خارج قادة أكتوبر.
ما بين هزيمة سيناء ومعركة المنصورة "كلمة السر"
في كتابه "كلمة السر"، تحدث الرئيس الراحل حسني مبارك، قائد القوات الجوية خلال حرب أكتوبر. عن حياته إبان عمله في سلاح الجو وحتى توليه قيادته. وبدا أن مبارك كان حريصًا أن يكتب مذكرات سلاح الجو المصري وليس مذكرات أحد ضباطه.
فقد رصد الرئيس الراحل كيف تم تطوير القوات الجوية من هزيمة 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973 وتضمنت أوراقه رؤية استراتيجية وتفصيلية للصراع بينه وبين قائد سلاح الجو الإسرائيلي الذي تسبب في هزيمة مصر 1967. مؤكدًا على الابتكار المصري في تحقيق نصر أكتوبر، إلى جانب تحليل أسباب الهزيمة ورصد عملية البناء في حرب الاستنزاف.
الكتاب، الذي حرر نسخته الأصلية الإذاعي الراحل محمد الشناوي، وأعده للنشر الكاتب الراحل عبدالله كمال، الذي قام بتحريره وكتابة مقدمة تحليلية له، بجانب دمج بعض الفصول وتغيير نظام الأبواب التي كانت بالكتاب، وجعل الكتابة أكثر ملاءمة للعصر الحالي "حيث إن اللغة الأصلية التي كُتب بها كانت لغة تناسب فترة السبعينات"، كما قال. راجعه الرئيس الراحل مرة عام 1978 لبعض الصفحات، والمرة الأخرى عام 2013، بعد تخليه عن السلطة بعامين.
أوضح مبارك أسباب كتابة هذه المذكرات بقوله: "أكتب هذه المذكرات انطلاقاً من شعوري بالمسئولية تجاه المواطن المصري، والقوات الجوية، والقوات المسلحة المصرية كلها، واستجابة لمسئوليتي تجاه التاريخ والحقائق التي يجب أن يطلع عليها الجميع. وأشعر بفداحة تلك المسئولية منذ نبتت فكرة هذا الكتاب الذى يحكى ملحمة الطيران المصري كاملة، بدءاً من ضربة الخامس من يونيو عام 1967، حتى ضربة "صدام" التي استعاد بها الطيار المصري سمعته كمقاتل جرئ ومقتدر، في الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر عام 1973".
وتابع: "إن المرجع الأساسي لذلك الإحساس هو ذلك الرصيد الهائل من الإعلام الإسرائيلي، الذى امتزج فيه قدر محدود من الحقائق بقدر لا محدود من الأكاذيب والخيالات التي صيغت بذكاء شديد. وفى أغلب فصول مذكراته يبدو مبارك مهتماً للغاية بالتأثيرات النفسية والمعنوية لهزيمة 5 يونيو، كما لو أن الضربة الجوية التي جهز لها في يوم 6 أكتوبر كانت تستهدف تحقيق الانتصار المعنوي والنفسي قبل أن تحقق الانتصار العسكري".
وتحدث مبارك عن نفسه ومشاعره عندما تعرض بني سويف ومطار الأقصر للقصف عقب الهزيمة، وعندما كان هو رئيس لجنة تحقق في حفل ساهر نُظم في أحد المناطق العسكرية، وعندما تعلق دوره بعملية الخداع الاستراتيجي في إعلان موعد حرب أكتوبر والإعلان عن رحلة له إلى ليبيا، وبالطبع عمليات التدريب وإعادة بناء القوات الجوية والفكر العسكري.
حكايات صهيونية توثّق الفزع
كنتاج لخيبة الأمل التي سحقت مجتمع الاحتلال، هاجمت كافة الأعمال الأدبية الإسرائيلية بعد الحرب المؤسّسة العسكرية؛ واتّهمتها بطريق غير مباشر، عبر قصص شخصيات عاشت الحرب أو شاركت فيها، بأنها السبب لانكسار حلم إسرائيل الكبرى.
وقبل أن تضع الحرب أوزارها في عام 1974، نشر الكاتب الإسرائيلي دان بن آموتس روايته "حرب جميلة"، التي تُعد هجومًا كبيرًا على النّظام السياسي الإسرائيلي الّذي اعتبره السّبب في اندلاع الحرب؛ وحكى فيها بصيغة الراوي عن تلقيه بعد الحرب بفترة بسيطة طردًا به وثائق مكتوبة بخط اليد، كتبها صديق له كان جنديًا لقي مصرعه في الحرب؛ يحوي الطرد مقالة نقدية وقصة ورواية وخطاب شخصى من الجندي إلى الراوي، يطلب فيه منه نشر هذا الكلام.
يتضامن الراوى مع أغلب ما ورد في تلك الوثائق، ويقرر أنه سينشرها بعد إعادة تحريرها، ويستخدم القصة كمحور للعمل، ويضيف إليها فقرات أخرى، وصفًا مشاهد من الحرب، مُتخيلًا أن العرب وصلوا إلى تل أبيب بعدما حقّقوا انتصارات عسكرية كبيرة، ويقومون بممارسات عنيفة بحق الإسرائيليين؛ وتثير الرّواية أسئلةً وأفكارًا عميقة بخصوص معنى الحياة ومعناها في إسرائيل تحديدًا.
وفي عام 1977 ينشر الكاتب إبراهام يهوشواع رواية "العاشق"، والتي يحكي فيها عن إسرائيلي يدعى آدم، يبحث عن عشيق زوجته جبريئيل الذي صار في عداد المفقودين، بعدما سلّم نفسه كجندي احتياط للجيش في حرب أكتوبر من دون أن يتم استدعاؤه.
رسم يهوشواع من خلال تفاصيل روايته صورة غير جيدة عن الجيش الإسرائيلي والصورة السيئة التي كان يراها الكثير من الجنود، والتي تمثلت في حكايات جبريئيل لزوج عشيقته آدم -بعد أن استطاع العثور عليه- عن معاملة الضابط المسؤول عنه السيئة، والتي بدا من خلالها وكأن هذا الضابط يحاول التّخلص منه وإهلاكه عبر إرساله إلى الميدان دون أن يكون لديه أي خبرة مسبقة عن القتال.
وحاكمت رواية "الصّحوة الكبرى" للروائي بيني برباش المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية وقرارات قادتها، عبر قصة العقيد إيلي هانجبي، الضابط الذي يحكي قصته من خلال شهادته أمام لجنة التّحقيق العسكريّة الّتي تحقّق في خطأ ارتكبه خلال الحرب.
يروي برباش عبر بطله، الذي صار في وضع لا يُحسد عليه وقد يدمّر مستقبله ويجمّده في منصب إداري في أحد مراكز التّدريب، الكثير من الأخطاء التي رآها وعايشها أدت -من وجهة نظره- إلى تلك الكارثة التي زلزلت دولة الاحتلال؛ بينما في الوقت نفسه ينتظر العقيد -الذي صار قاب قوسين من إنهاء حياته العسكرية بشكل فعلي- إفاقة أساف ضابط عمليّات كتيبته بعدما فقد وعيه جرّاء إصابته في الحرب، والّذي يعتبر أنه باستطاعته إنقاذه من العقاب.
حكاية أخرى عن الهلاك الذي واجهه الجيش الإسرائيلي على أيدي الجنود المصريين يرويها حاييم بئير في روايته "ريش" مستوحيًا من ذكرياته الأيّام الأخيرة للحرب، ومشاركته فيها كجندي، وعمله بعدها في البحث عن جثث القتلى.
يحكي بئير في صفحاته عن المنطقة التي كان يعمل بها لانتشال الجثث، والتي كانت تأتي إليه في كوابيسه، واستيقاظه عندما يكتشف أنّ إحدى الجثث التي انتشلها هي جثّة ابن صديق عائلته؛ ليركز على أن قتلى الحرب هم أشخاص كانت لديهم حياة وأهل وأصدقاء، وليسوا مجرّد أرقام وإحصائيات في سجلات وزارة الدفاع الإسرائيلية.