صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب جديد بعنوان "مشروع أبو العلا السلاموني.. التنوير مسرحيا" للناقد والكاتب المسرحي أحمد عبد الرازق أبو العلا.
وفي مقدمة الكتاب يقول الناقد المسرحي أحمد عبدالرازق أبوالعلا: يُعد الكاتب المسرحي محمد أبو العلا السلاموني واحدا من كتاب الجيل الثالث في المسرح المصري، والذي جاء بعد جيلين، الأول منهما هو "جيل الرواد"، ممثلا في توفيق الحكيم ومعه كتاب المسرح الشعري "أحمد شوقي، وعزيز أباظة"، والثاني منهما "جيل الستينيات"، ممثلا في عدد كبير من كتاب المسرح منهم: "يوسف إدريس، نعمان عاشور، سعد الدين وهبة، الفريد فرج، محمود دياب، صلاح عبد الصبور، ميخائيل رومان.. وغيرهم.
أما الجيل الثالث الذي ينتمي إليه كاتبنا لا ينطلق - كتابه - من منطلق فكري، أو إبداعي واحد، لأن لكل واحد منهم طريقته، ومنهجه، ونظرته إلى الحياة، والسبب في ذلك، يعود إلى غياب الهم القومي الذي يلتف من حوله الكتاب – كما حدث مع جيل الستينيات – مما أثر على توجهاتهم، وجعل مواقفهم متباينة، وأدى إلى عدم وجود عوامل مشتركة تجمع بينهم، فصار الاجتهاد الشخصي، محددا لمدى تميز أعمال الكاتب، وسط أقرانه من الكُتاب.
إلى جانب السبب الذي ذكرته، واجه ذلك الجيل عددا من التحديات، يذكرها كاتبنا، ويعتبرها من الأسباب، التي كان من الممكن أن تقتل الكتاب كمدا وهي: عدم وجود مظلة نقدية تحمي ظهورهم أثناء مسيرتهم الصعبة، بالإضافة إلى وجود وسائل فنية أخرى مثل التلفزيون والفيديو، داهمتهم، بما أثر على تلقي الفن المسرحي لدى الناس، فضلا عن المتغيرات السريعة التي نتج عنها خلل كبير في العلاقة بين المُبدع والبيئة، التي يعيش فيها، تلك العلاقة الجدلية التي تمخض عنها لحظات الإبداع الحقيقية، لقد تعرضت هذه العلاقة لزلزال أفقد الكاتب القدرة على استيعاب هذه المتغيرات.
كل تلك الأسباب أدت إلى تفاوت التجربة الإبداعية، لدى هؤلاء الكتاب، مما دفع ناقدا مسرحيا هو "فاروق عبد القادر" إلى اتهام بعضهم، بأنهم كانوا سببا، بل وساهموا - بما قدموه- في انهيار خشبة المسرح المصري، وأن عددا قليلا من هؤلاء - ومنهم "السلاموني"- كانوا فرسانا صعدوا إلى الخشبة المُنهارة في أجواء المتغيرات التي أحدثتها هزيمة 67، والآثار التي خلفتها، واجه أبناء ذلك الجيل، مجموعة من التحديات- التي ذكرت بعضها- كان عليهم مواجهتها، ليستطيعوا التعبير عن أنفسهم، معلنين عن موقفهم، تجاه الواقع المحيط بهم، فأخذ كل واحد منهم يبحث لنفسه عن طريق جديد، ربما يختلف عن الطريق الذي سار فيه كتاب الستينيات، ولم يعد الهم القومي العام – خاصة بعد حرب أكتوبر، وانتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي، وإبرام اتفاقية السلام مع إسرائيل- في عهد السادات موجودا – كما ذكرت – فلاذ كل واحد منهم، باحثا عن هم إبداعي، وشخصي، وفني خاص به.
ذهب أبو العلا السلاموني باحثا في الجذور، ذهب إلى التراث "التاريخي، والأسطوري، والشعبي" ليعبر - بالمعالجة المعاصرة- عن الواقع ، بكل ما فيه من تناقضات، وصراعات أحدثتها المتغيرات الجديدة.
والسلاموني يختلف عن أبناء جيله - ومعه الكاتب يسري الجندي - في أنهما بدآ معا الكتابة للمسرح في الستينيات، لكن الضوء كان مُسلطا – أيامها – على كُتاب العاصمة، دون غيرهم من الذين يعيشون بعيدا عنها، ولذلك تأخرت أعماله، وغاب تقديمها على خشبة المسرح، ولم تجد النور على المسارح الرسمية إلا في أوائل الثمانينيات حين أخرج له المخرج عبد الرحيم الزرقاني مسرحية "الثأر ورحلة العذاب" إنتاج المسرح الحديث، ولهذا السبب لا يُعد تعبير "الجيل" موضوعيا، وحين نستخدمه، نستخدمه كإجراء نقدي، نوضح به بعض الملاحظات، أو نحدده كسياق للتعرف على تجربة الكاتب.
ولو كانت مسألة المجايلة دقيقة ، لكان السلاموني منتميا إلى جيل الستينيات.. لماذا؟ لأنه كتب أعمالا مسرحية في تلك الفترة منها: "درس في المأساة 1961، مباراة بلا نتيجة 1962، حكاية ليلة القدر 1963، تحت التهديد 1964، سيف الله "فرسان الله والأرض" 1965، الجانب الآخر 1967، الحريق 1968، أبو زيد في بلدنا 1969، ليس هذا فقط، بل أن بعض هذه الأعمال، عُرضت فوق خشبة المسرح في الثقافة الجماهيرية - وقتها- لكن مأزق العاصمة، والمركزية، كان مُعوقا كبيرا أمام الكُتاب الذين يعيشون بعيدا عنها، خاصة، وأن الظروف وقتها لم تساعد الكاتب – أي كاتب – ليستطيع تقديم أعماله، في القاهرة، فوسائل الاتصال لم تكن متاحة بالصورة التي عليها الآن، حتى وسائل المواصلات – أيضا - لم تكن سهلة.. تلك الظروف الصعبة، أبعدت بعض الكتاب عن مركزية العاصمة، وكانت سببا في تأخر ظهورهم، وتعرف الناس على أعمالهم.
والمفارقة الغريبة أن كاتبنا حين قدم أول عمل له على مسارح الدولة في عام 1982، اعتبرته الحركة النقدية كاتبا جديدا، وشابا، وتم التعامل معه على ذلك النحو، وكأن تجربته الممتدة قبل هذا التاريخ بأكثر من عشرين عاما، سقطت من ذاكرة الحركة النقدية، التي لم تواكب إلا القريبين من الضوء، والمقربين من النقاد.
وأعمال الكاتب المتراكمة، أثبتت أن تلك الفترة التي سقطت من ذاكرة النقد، جاءت في صالحه، لأن أعماله التي عُرضت متأخرة، قدمته كاتبا كبيرا ، بل ومن أهم كتاب ذلك الجيل المسرحي، إلى جانب "يسري الجندي، رأفت الدويري، شوقي عبد الحكيم، السيد حافظ، بهيج إسماعيل، نبيل بدران، لينين الرملي".
ما يميز تجربة أبو العلا السلاموني، أن لديه مشروعا مسرحيا متكاملا وكاملا، يكتب ويعرف لماذا يكتب، يكتب ويعلم أن الكتابة ضرورة، يكتب محددا موقفه تجاه الواقع، ورؤيته الفنية تعكس هذا الموقف، بشكل متميز ولافت.. تعامل مع التراث التاريخي لضرورة، حين استخدمه كوسيلة إسقاط على الواقع بقضاياه السياسية والاجتماعية، وتعامل مع التراث الشعبي مُستلهما منه العناصر التي بها يستطيع تقديم مسرح له ملامح وهوية.. معياره في كل الحالات هو صدق التناول، وبراعة المعالجة، ووضوح الرسالة.
انحاز مشروعه المسرحي لفعل التنوير، في زمن معاداته "فرمال الإظلام تزحف من الصحراء على الوادي لتحجب ما تأسس من استنارة، وسيوف الجهالة تحاول استئصال ما ترسخ من مبادئ للعقلانية، ورماح التعصب لا تكف عن مناوشة كل ما ورثناه من وعي نقدي، وأقدام التقليد تدوس في غلظة جاسية على كل ما يولده السؤال - ماذا حدث للتنوير- من تطلع إلى أفق معرفي لا حد له".
هذا الانحياز لفعل التنوير، أضاف بُعدا آخر إلى أبعاد تجربته الإبداعية المسرحية، حين تفاعل، وعالج متغيرا كبيرا، فرض نفسه في مصر منذ السبعينيات، وما زال فارضا نفسه حتى الآن - ليس في مصر فقط، ولكن في المنطقة العربية، كلها - وأعني به متغير "الإرهاب باسم الدين" وقضية خلط الأوراق بين الدين والسياسية.
تلك المحاور المُتعددة شكلت ملامح إبداعه المسرحي، وأكدت عمق مشروعه – الذي أشرت إليه- وهو حين يعالج موضوعات تتضمنها تلك المحاور - بعدد كبير من النصوص - لا نجد فيها نصا يشبه الآخر، برغم أن القضية تبدو أمامك واحدة، ذلك التنوع، وفرته موهبته الكبيرة، ووعيه الفكري وثقافته الشمولية، وثراء تجربته الإنسانية بشكل عام.
ففي محور معالجة التاريخ قدم نصوص "فرسان الله والأرض 1965، الأرض والمغول1971، الثأر ورحلة العذاب 1980، رجل في القلعة 1981، محكمة الحكماء 1984، زوبة المصرية 1995، المصري وأمير الفرنجة 1998، المحروس والمحروسة 2012"
وفي محور توظيف عناصر التراث الشعبي مسرحيا كتب "أبو زيد في بلدنا 1969، الحريق 1968، تغريبة مصرية 1992، مولد يابلد1991، المليم بأربعة 1988، حكاية ليلة حرب 1963، أبو نضارة 1986، مآذن المحروسة 1982، رواية النديم عن هوجة الزعيم 1970، ملاعيب عنتر 1991".
أما في المحور الخاص بمعالجة قضية الإرهاب والتطرف الديني كتب مسرحيات "السحرة 1975، المليم بأربعة 1988، أمير الحشاشين1993، ديوان البقر1994، القتل في جنين2002، الحادثة اللي جرت في شهر سبتمبر2002، رسائل الشيطان2017، جهاد الفواحش في زمن الدواعش 2018، ابن دانيال والأمير وصال 2020".
فضلا عن نصوص أخري لا تندرج تحت أحد من المحاور السابقة وهي: "درس في المأساة 1961، مباراة بلا نتيجة 1962، تحت التهديد 1964، الجانب الآخر1967، زيارة عزرائيل 1973، دكتوراه في الحب 1989، أمير المسرح 1990، الحب في ميدان التحرير 2011، عرش الحب 2016".
كل هذه الأعمال تكشف أننا أمام كاتب غزير الإنتاج، وبرغم تلك الغزارة، إلا أن ارتباط أعماله بقضايا مجتمعه، تجعلها معبرة عنه تعبيرا شاملا على المستويات: السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، والإنسانية أيضا، بدون تكرار، أو ضعف نص أمام نص.
سبعة عشر نصا مسرحيا، هي النصوص التي تناولتها في هذا الكتاب، وتندرج تحت محورين من محاور التجربة الإبداعية لدي كاتبها وهما: محور توظيف عناصر التراث الشعبي في المسرح؛ ومحور معالجة قضية الإرهاب والتطرف باسم الدين.. في نصوص المحور الأول "توظيف عناصر التراث في المسرح" وصولا لصيغة يمكن أن نُطلق عليها اسم "المسرح الشعبي" حاولت الإجابة على مجموعة من التساؤلات النقدية والفنية، التي تعكس الإشكاليات التي تواجه الكاتب المسرحي، حين يحاول الكتابة في هذا النوع من المسرح.
أولها: هل سيستطيع إضفاء صفة الشعبي على مسرحه أم لن يستطيع، برغم توافر معيارين حددهما د.حسن عطية - ونشير إليهما في متن الدراسة - وهما استلهام الموروث الشعبي ووضعه في سياقه الثقافي، فضلا عن القيام بإعادة صياغة هذا الموروث صياغة فنية جديدة؟
وثانيهما: هل سيستطيع الكاتب أن يجعل هذا المسرح، قادرا على عرض قصة من قصص الحياة، وليس الحياة نفسها كما أكد علي ذلك الدكتور علي الراعي؟
وثالثهما: هل استطاع الكاتب استغلال منهج الأداء في السير الشعبية - الذي لجأ إليه في بعض النصوص - ليُضفي به الطابع الشعبي على قالب مسرحياته؟ وهل الاتجاه إلى توظيف العناصر الشعبية في المسرح - مادة وأداة- يعني غياب المصادر التراثية غير الشعبية عن دائرة التوظيف نهائيا؟ وهو الأمر الذي شغل من قبل باحثا اهتم بهذا الموضوع وهو الدكتور عز الدين إسماعيل؟
كل هذا الأسئلة - وغيرها – كانت منطلقا أثناء قراءة النصوص، وتحليلها، وتحديد العنصر الشعبي الذي استعان به الكاتب، ومعرفة كيف وظفه، وكيف طوعه دراميا، ليؤدي وظيفته، بدون الإخلال بطبيعته التراثية.
وفي نصوص المحور الثاني الخاص بمعالجة قضية الإرهاب والتطرف باسم الدين مسرحيا، تساءلت: كيف تعامل الكاتب مع تلك القضية الشائكة؟ وهل سيعالج الفكر أم يقدم الوقائع؟ وكيف سيتعامل مع المادة التسجيلية؟ حين استعانت بعض النصوص بها؟ وهل ستغفل المُعالجة الدرامية الجوانب الفنية، المُتعلقة بالحدث وطبيعته، وتطوره، والفعل الدرامي، والشخصية بمكوناتها: الإنسانية، والفكرية، والنفسية، وكيف ستكون الرسالة، وما هي طبيعتها؟
مرجعية الكاتب المعرفية حول هذا الموضوع كبيرة جدا، ومصادره متعددة، الأمر الذي جعلني - أنا الآخر – أعود إليها، لأقف على الأرضية نفسها التي وقف عليها الكاتب، لأعرف كيف استفاد من الوقائع، وكيف وظف الوثائق، وكيف تعامل مع الشخوص التي استحضرها من الواقع – في بعض النصوص- وكيف تعامل – أيضا – مع التاريخ ، الذي يمثل مرجعية هامة، أثناء المعالجة.
وحين يقدم الكاتب سبعة نصوص في هذا المحور، فهذا دليل على أنه مهموم به، في الوقت الذي لم ينتبه فيه معظم الكتاب إلى هذا الموضوع برغم خطورته، ليتم تناوله إبداعيا وفنيا، والاهتمام به يُعد نوعا من أنواع المقاومة، والمسرح، قادر على القيام بها بشرط أن يكون تناول القضية قادرا على إثارة جذوة الحماس لمواجهة التطرف، وقادرا على إذكاء الوعي، وتنميته، وقادرا علي الانتصار لثقافة التسامح، في مواجهة ثقافة العنف والتطرف.
المسرح يستطيع القيام بهذا- كله- بما يملكه من أدوات الفُرجة، والمتعة والإبهار، والسؤال الذي دائما ما أسأله، ويسأله معي كاتبنا لماذا في مقاومة الإرهاب كلنا مرتعشون؟ سألته من قبل حين بحثت عن القصة القصيرة التي تناولت هذا الموضوع في مصر، فلم أجد أكثر من ثلاثين قصة عالجته، وتحدثت عنها في كتابي "ثقافة العنف والإرهاب الديني والسياسي".
وترجع أهمية الكتابات التي تُعبر عن هذه الظاهرة الخطيرة، ليس فقط في أنها تنمي الوعي لدي الناس، ولكن لأنها تعمل على "التأثير على حركة المجتمع وتوجيهه نحو مسار الدولة المدنية الحديثة، بدلا من الردة التي كبلت مساره فترات طويلة ، وجعلت خطواته خطوة للأمام وخطوتين للخلف، وكما هو معروف فإن العالم المتقدم لم يخط خطواته الواسعة إلى الأمام إلا عندما نحى السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وذلك من خلال صراع طويل ومرير كان للإبداع الأدبي والفني دور كبير أن لم يكن له الدور الأساسي".