القديس جيروم معلم الكنيسة بالميلاد اسمه "يوسابيوس سوفرونيوس هيرونيموس"، وقد وُلد عام 347م، في سترايدون (حالياً دولة البوسنة) شرق أوروبا، إلا أنه ينحدر إلى أصول هندية وقد استقر أجداده في أوروبا خلال عصور قديمة.
كانت عائلة يوسابيوس مسيحية وقد نال سر المعمودية ما بين عامي 360 إلى 366م. ثم سافر إلى روما، برفقة صديقٍ له يُدعى "بونوسوس" لدراسة الفلسفة والبلاغة، كما درس قواعد اللغة اللاتينية عن يد "إيليوس دوناتوس"، ودرس قليلاً اللغة اليونانية.
أثناء فترة الدراسة بروما كانت تصرفات "يوسابيوس" في منتهي الطيش، وقد جارى معظم الطلبة في فسادهم ووحشيتهم أحياناً. فكان مُستسلماً لشهواته، مما كان يجعله يشعر كثيراً بالذنب، فيحاول تسكين ضميره بزيارة قبور الشهداء والقديسين في أيام الآحاد، حتى يشعر بالزهد في الحياة، ويقوم بالصلاة وتلاوة المزامير.
كما كان يستخدم الجمل والأقوال الشعرية لشعراء أمثال "ڤرجيل" ليعبر بها عن مفاهيم مسيحية،
وبشكل خاص في وصف الدينونة التي كانت تشغل تفكيره بسبب ممارسات لا أخلاقية كثيرة، كالمثلية الجنسية وغيرها من الممارسات التي كانت منتشرة لدى الشباب المستهتر في روما، كذلك شكّه في الإيمان لفترة.
بعد انتهاء دراسته في روما إنتقل بصحبة صديقه "بونوسوس" إلى بلاد الغال (فرنسا) لكنه استقر في مدينة ترير بجنوب غرب ألمانيا، ليدرس اللاهوت. كما نسخ لصديقيه "تيرانيوس روفينوس" و "إيلاريون من بواتييه" (القديس إيلاريون من بواتييه فيما بعد) كتابي طرح المزامير و توصيات المجامع.
وبعد شهور وربما سنوات من الإقامة في أكويليّا بشمال إيطاليا، كون مع صديقه روفينوس صداقات عديدة بمسيحيين آخرين. وقد رافقه بعضهم عندما بدأ عام 373م رحلته عبر تراقيا وآسيا الصغرى و شمال سوريا حيث أنطاكيا.
في أنطاكيا، توفيّا اثنان من أصدقائه فيما مرض هو أكثر من مرة بأمراض قاسية. خلال إحدى فترات مرضه (من عام 373م إلى 374م) شهد رؤيا جعلته يقرر بعد شفاءه الإكتفاء بالقدر الذي حصل عليه من الدراسات العلمانية ليكرِّس نفسه لله.
فانغمس بتعمُّق في دراسة الكتاب المقدس، بتشجيع من صديق يُدعى "أبوليناريس من لاوديسا"، بعدها بدأ يُدرِّس في أنطاكيا التعليم المسيحي، حيث لم يُتّهم بالهرطقة بعد.
كما اشتاق لحياة الزهد والعُزلة في الكهوف، وتقديم دلائل تغير حياته والتوبة المستمرة عن خطاياه بالأصوام والصلوات.
ذهب لفترة للإعتزال بصحراء قنسرين جنوب شرق أنطاكيا، والتي كانت شبيهة بصحاري مصر بسبب عدد النُسّاك الذين يسكنوها، فاشتهرت بسم "طيبة السورية". وقد كان وقتاً مثمراً للقراءة والكتابة والتأمل، كما حدثت فيها محاولاته الأولى لتعلم اللغة العبرية من يهودي تحوَّل للإيمان المسيحي. لتساعده على مراسلة المسيحيين من أصل يهودي في أنطاكيا.
عاد چيروم إلى أنطاكيا عام 379م، وتمت رسامته الكهنوتية عن يد أسقفها "پولينيوس"، وقد كان شرط چيروم أن يستمر على حياة الزهد والتقشف.
بعد رسامته بقليل سافر إلى القسطنطينية، لاستكمال دراسة الكتاب المقدس عن يد "غريغوريوس النزينزي" (القديس غريغوريوس النزينزي فيما بعد).
ويبدو أنه قضىَ حوالي عامين هناك وغادرها ثم عاد ليقيم بها ثلاث سنوات أخرى (382م إلى 385م). بعدها عاد إلى روما ليصبح سكرتيراً للبابا "داماسوس الأول" (القديس داماسوس الأول فيما بعد)، وكان قد دُعيَ عام 382م لحضور مجمع لحل مشكلة انشقاق أنطاكيا، ليكون ضمن هيئة المدعين ضد بطريرك أنطاكيا.
أُعطيَ چيروم مهام كثيرة في روما، كان أهمها وأدقّها هو تنقيح لغة الكتاب المقدس اللاتيني، ومقارناتها بمخطوطات العهد الجديد اليونانية. كذلك قام بتنقيح سفر المزامير باللغة اللاتينية بمناظرته مع الترجمة السبعينية. كما نقَّح أسفار كثيرة أخذت سنين عدّة، وسُميت ترجماته وتنقيحه بالكتاب المقدس بلهجة الڤولجاتا اللاتينية، وهو يعدّ أكبر إنجازاته وخدماتها للكنيسة.
في روما كان چيروم مُحاطاً بالعديد من السيدات النبيلات الحاصلات على تعليم راقي، أشهرهن ثلاثة أرامل هُنّ : "لا" و"مارسيلاّ" و"پاولا" (ثلاثتهن أصبحن قديسات فيما بعد) وبناتهن "بلايزيلا" و "إوستاكوم" (القديسة إوستاكوم فيما بعد). وقد كان ميل هؤلاء النسوة للحياة النسكية بعيداً عن رغد العيش في روما هو ما دفعهم للتلمذة عن يد الأب چيروم الناسك.
كما كان نقده الشديد للحياة الكهنوتية المختلطة بتعظُّم المعيشة لدى بعض كهنة روما، سبباً في كسب عداوات منهم ومن تابعيهم، إذ كان يرى أن الحياة النسكية والخلوات الروحية المستمرة لازمة للشمامسة والكهنة حتى لا ينغمسوا في حياة العالم وملذاته.
في أواخر عام 384م توفيَ البابا القديس داماسوس الأول، وعلى الفور قرر أعداء الأب چيروم التخلُّص منه وإبعاده عن روما، فإدعوا أنه على علاقة غير طاهرة بالأرملة "پاولا" التي كانت قد تنسّكت بعد تلمذتها على يديه!، وتم إجراء تحقيق غير عادل معه بمساعدة شهود زور، وأُجبِرَ على ترك منصبه كسكرتير للبابا.
إلا أن محاولات تشويه صورته لم تنال من يقين سيدات أرامل وعذارى أخريات كانت لكتابته أثر كبير في تشكيل دعوتهن التكريسية، فاستمر تكريسهن للرب حتى بعد إبعاده عن روما.
وكانت رسائله وكتاباته قد انتشرت ووُزِعت في العالم المسيحي، وكان يبدو من كلماته أنه يعرف أن العذارى والأرامل ليسوا جمهوره الوحيد الذي يتأثر بالدعوات التكريسية.
ويقال إن "بلايزيلا" إبنة الأرملة "پاولا"، كانت قد اتجهت نحو الزهد بعد انتقاده الصريح لحياة البذخ التي كانت تعيشها كفتاة ثرية، فاعتمدت ممارسات تقشفية شديدة لحياتها بشكل زائد على طاقتها وصحتها مما تسبب في وفاتها بعد أربعة أشهر فقط من بدء التقشف! وقد تسببت هذه الواقعة في غضب أهل روما من چيروم لاعتقادهم بتسببه المباشر في موت الفتاة. كذلك غضبوا لأنه طلب من والدتها أن لا تحزن كالباقين الذين ليس لهم رجاء [1 تسالونيكي 4 : 13] وألا تعيش حالة حداد مادامت تؤمن برجاء القيامة والإنتقال إلى حياة أفضل، فاعتبره أهالي روما بلا قلب، لأختلاف وجهة نظره عنهم فهو يريد سلوكاً تاماً بالروح وهُم مازالوا تحت نير الجسد.
في أغسطس 385م، غادر چيروم روما عائداً لأنطاكيا، برفقة شقيقه "پاولنيان" وبعد أصدقائه. ثم تبعتاه "پاولا" و"إوستاكوم" إلى هناك، ثم اشتاقتا أن تقضيان أيامهما الأخيرة في الأراضي المقدسة بأورشليم وبيت لحم والجليل.
في شتاء العام التالي، صار چيروم كمرشد روحي لهما في رحلة الحج الروحي نحو أروشليم، والتي قادها أيضاً أسقف أنطاكيا "پاولنيوس"، ثم امتدت الرحلة نحو مصر، أرض أبطال الحياة النسكية وموطن أول نُسّاك الأرض.
في مدرسة (إكليركية) الإسكندرية، استمع چيروم لدروس المُعلِّم "ديديموس" الضرير – أي الكفيف - (القديس ديديموس الضرير فيما بعد)، وقد كان يشرح سفر هوشع كما كان يروي كثيراً ذكرياته مع القديس أنطونيوس الكبير أبا الرهبان، الذي مرّ على انتقاله حوالي 30 عام في تلك الفترة.
قضى چيروم بعض الوقت في صحراء وادي النطرون، وأبدىَ إعجابه الشديد بانضباط الحياة النسكية في "مدينة الرب" كما أسماها، لكنه اكتشف هناك أيضاً "أفاعي مُستترة".
في أواخر صيف عام 388م، عاد چيروم إلى فلسطين، ليقضي ما تبقى من حياته داخل مغارة قريبة من بيت لحم، ليتشبه بالسيد المسيح في ميلاده داخل مغارة، وقد أحاط به بعض أصدقائه، من رجال ونساء كان هو مُرشدهم الروحي، فسكنوا في مغاورٍ قريبة. وبمساعدة مادية من "پاولا" استطاع أن ينمي مكتبته الأدبية بقراءات عديدة، أسهمت في إنتاجه الأدبي وكتاباته.
قضى چيروم حوالي 34 عام في هذه المغارة، أنجز فيها معظم كتاباته، وأفضل طرح كتابي لأسفار العهد القديم.
توفيَ چيروم بعطر القداسة في 30 سبتمبر 420م بعمر الثالثة والسبعين، بعد مجهود كبير في خدمة كلمة الله من ترجمة للكتاب المقدس وتفاسير وأطروحات وخطابات وعظية للنُسّاك.
رفاته محفوظة ببازليك القديسة مريم بروما، وهو شفيع:
علماء الآثار، علماء الكتاب المقدس، المؤرخين، أمناء المكتبات، المترجمين، ويعتبر يوم 30 سبتمبر هو يوم الترجمة العالمي إحتفاءً بمترجم ومُنقِّح الكتاب المقدس القديس چيروم.