دعْك من قياساتك المادية للأمر؛ فتلك "أرزاق"، فهناك أثرياء عجزوا عن قيادة سيارات فارهة؛ لأن الله أراد أن تكون المُتعة للسائق الفقير حتى ولو انفرد بنفسه للحظات في العودة أو الذهاب.
ليس لزبائن الفل الوقت الكافي لمتعة ضم حباته، هم يشترونه لمظهره كعقد حول مرايا السيارات وأعناق الحبيبات، لكن رائحته تظل ساكنة في براجم أصابع الباعة؛ لذا إذا كان رصيدك في روحك فاحفظه؛ لأن غيرك حينما يقف أمام ماكينة صرف الحروف، سيكون له حد أقصى للسحب، بعدها سينفد رصيده، إلا إذا كان منفوحًا ممنوحًا، فلا سقف ولا حدود للسَّحْب، ولا قلق الاستعلام عن الرصيد، فقط اجعل "كلمة السر" هي الشكر والحمد، وانثر بعضًا من عُملاتك من الحرف على المُتعثِّرين أمام "ماكينات الصرف"، وابتسم لبائع الفل وقل له: أنا شريكك، فأنا الآخر أفتل من شجر السل فُل.
من لطائف الصُّدف أنه وقع في يدي كتاب لا يحمل تاريخًا لكنه يحمل عنوان 100 رسالة من رسائل الحب، لشاعرنا الكبير نزار قباني، كانت نسخة من دار بيروت للنشر، عتيقة تركت عليها السنوات ذرات ثرى بعددها لكن كلماتها ما زالت بألقها ورونقها.
حينما فتحتها وجدت «نزار» يُطِل من شرفة أولى صفحاتها، وكأنه بكل شهرتها يُعرف نفسه تعريفًا خاصًّا لمن يطرق الباب على كتابه بعد كل هذه السنوات فيقول: «أنا شاعر كان له ككل الرجال تراث من العشق لا يخجل به ومجموعة من الرسائل لم يجد الشجاعة الكافية لإلقائها في النار».
ويتابع: «أنا لا أنكر أنني فكرت في النار، كحل أخير يحررني من هذه التركة الثقيلة من الرسائل التي أحتفظ ويحرر جميع حبيباتي».
غير أني حين رجعت إلى محتويات هذه التركة وجدت أن بعض هذه الرسائل فيه شيء، كثير من قماشة الشعر، وبعضها الآخر شعر حقيقي.
أغلقي جميع كتبي
واقرأي خطوط يدي
أو خطوط وجهي
إني أتطلع إليك بانبهار طفل
أمام شجرة عيد الميلاد
تذكرت حينها حينما كنتُ أركض خلف بائعي الفُل لأتعلم منهم كيف يمررون الخيط من قلب الفل دون أن يتأذوا من الشوك أو يؤذوا قلبه.
حدثني أحدهم عن نزار وأشعاره ومفرداته وتخطيه لحواجز الحروف، فخرجت أقرأ كل ما كتب نزار وأحاكيه في كل رسائله، ثم انتقيت بعضًا مما كُتب في ديوان شعر نلت عليه تكريمًا واعترافًا أوليًا بأنني "صبي جيد في ورش صنع الفل"، وزاد أحدهم في تكريمي حتى إنه قال لي: "أنت نزار المصري"، لكنني بعد سنوات اكتشفت أنني مُريد في محراب "درويش".
أعود معكم إلى رسائل نزار التي انتقى منها مائة رسالة والتي برَّر نشرها بأنها تخص العالم كله، وقال: إن الحب انفعال رائع بغير ريب ولكن الأروع منه هذه الحرائق التي يتركها على دفترها؛ وذلك الرماد الذي يبقى منه على أصابعنا.
ليس لك زمان حقيقي خارج لهفتي
أنا زمانك
ليس لك أبعاد واضحة
خارج امتداد ذراعي
أنا أبعادك كلها
زوايا ودوائرك
خطوطك المنحنية
وخطوطك المستقيمة
يود دخلت إلى غابات صدري
دخلت إلى الحرية
يوم خرجت منها
صرت جارية
واشتراك شيخ القبيلة