اشتهر المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك «21 مارس 1925 - 3 يوليو 2022» كظاهرة فنية لديه البصيرة النفاذة التي ساهمت في تغيير كيمياء العرض المسرحي، وإحداث خلخلة في أركان الرؤية المسرحية، بل وإلغاء الحاجز الوهمي الذي يفصل المُمثل عن الجمهور.
ويقول «بروك»: «لم أكن سميت جدار رابع بين الممثلين والجمهور، والهدف المُوحد للمُمثلين هو إحداث استجابة محددة عند الجمهور الذي يحترمه احترامًا كاملًا». كما يقول أيضًا عن فنه: «إنه غالبًا ما لا تكون لديه أفكار مُسبقه عن كيفية إخراج العرض المسرحي، وهذا ما يجعله يتبع ضوء رغبة غريزية لنشر صور ومواقف عفوية ذات تأثير شديد».
قام بأداء نسخته الخاصة من مسرحية «هاملت» لشكسبير، وهو لم يتجاوز سن السابعة من عمره، كما قدم لجماهير لندن أول أعماله المسرحية كمخرج بعنوان «دكتور فاوست» للكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو، حتى لقب بـ«الفتى الذهبي» بعد إنتاج أول له مع مسرح ستراتفورد في سن الـ21.
وفي العام 1962 عُين «بروك» كواحد من أهم مخرجي مسرح شكسبير الملكي، واستمر في البحث عن طرق بديلة لإنشاء مسرح نابض بالحياة وذو معان إنسانية يتبع؛ حققت تجربته الأولى «الآلة الجهنمية» نجاحًا كبيرًا، للكاتب المسرحي الفرنسي جان كوكتو، مبررًا اختياره آنذاك بأن كل شيء يأتي من فرنسا له لقبه الثقافي الخاص، ففي مقابل المسرح الفرنسي سيعترف في وقت لاحق أنه حين بدأ العمل في المسرح، لم يستطع أن تذوق الطبيعة المهذبة والشاحبة لمعظم المسرحيات الإنجليزية، رغم أنه كان مستعدا لأي شيء من أجل تجربة العمل.
وكان الميلاد الحقيقي له عندما رشح لإخراج مسرحية «الإنسان والسوبر مان» للكاتب المسرحي البريطاني جورج برنارد شو، مقابل 25 جنيهًا إسترليني آنذلك، وذلك بعد تجارب في إخراج العديد من كلاسيكيات المسرح العالمي.
قدم «بروك» إنتاجًا متجددًا لكبار كتّاب المسرح منهم: «شكسبير، وسينيكا، وتشيكوف، وأنوي، وميللر، وسارتر، وأليوت، وآردون، وبيتر فايس، وزدرينمات» وغيرهم، كما أخرج العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية ذائعة الصيت منها: «الملك لير، فاوست، هاملت، كارمن، مؤتمر الطيور وسواها» وغيرها، إلى جانب الأفلام السينمائية سبق إخراجها قبل ذلك للمسرح، وكان لكل منها تجربة إخراجية مختلفة، فقد حاول «بروك» أحيانًا استخدام المعرفة بالموضوع التي توفرت له في المسرح، لإعادة تكوينها للسينما بوسائل مختلفة.
أسس «بروك» المركز الدولى لأبحاث المسرح في باريس عام 1970، وكون خلاله فريقًا من الممثلين من مختلف الجنسيات والثقافات المنوعة، وكان معهم على ارتحال دائم يقدمون عروضهم المسرحية في إفريقيا، وأستراليا، وأماكن أخرى في أوروبا، وآسيا، وأمريكا، فقدم مجموعة متنوعة من العروض المسرحية المثيرة في المسرح المعاصر من بينها: «أورجاست» في عام 1971، و«الأيك» في 1975، 1976، و«اجتماع الطير» 1979، و«المهابهاراتا» عن الملحمة الهندية العظمى، عام 1987 وغيرها.
شاهد «بروك» في إحدى المكتبات عرضا للأطفال يقدمه مسرح للعرائس من القرن التاسع عشر، وكانت تلك التجربة نافذة على هذا العالم الرحب، الذي كان بالنسبة له أكثر إقناعًا من العالم الذي يعرفه خارج المسرح.
طرح «بروك» عدة تساؤلات في كتابه الشهير «الفضاء الخالي» عام 1969، ليكرس فيها منهجًا فكريًا فنيًا في ممارسته المسرحية الإبداعية، التي تدور حول ثلاثة ثوابت وهي: الممثل، والمخرج، والجمهور، والذي ركز في بحثه عليه، وبدأ يساهم المسرح في عملية التغير لحياة أفضل للمواطنين.
رفض «بروك» أن يكون مسرحه فيلمًا تسجيليًا أو قاعة محاضرات أو مجرد منصة لنقل أفكار جاهزة، فالمسرح بالنسبة له مساحة إبداع وتأمل لا يتوقع منها تقديم أجوبة جاهزة، بل نفاذ إلى أكثر مناطق النفس البشرية نائيا وإرباكًا، لذا يؤمن بروك أن المسرح ليس مجرد مكان أو مهنة، لكنه استعارة ومجاز، وفعل من أفعال الشفاء.
يرى «بروك» أن القوة الدافعة للمسرح الكلاسيكي والتجاري ظلت لمئات السنين على السواء هي إحداث أثر في الجمهور، وجاء رد فعل المسرح التجريبي اليوم كي يمضي لأقصى النقيض، من أجل أن تظل الآلة المسرحية دائرة بكفاءة، وأن العلاقة بالجمهور هي السيور التي تربط أجزاء الآلة معًا، فحين تصبح كل جوانب الثقافة مواجهة بالتحدي، فإن تلك الأحداث حتى وإن كانت على مستوى محدود تُعيد إلينا الإحساس بأن المسرح يمكن أن يصبح مفيدًا بل وضروريًا.
لذا اختارته ادارة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، شخصة الدورة التاسعة والعشرين من عمر المهرجان، تقديرا لمسيرته المسرحية وكونه أحد رواد التجريب في المسرح العالمي، والمقامة في الفترة من 1 حتى 8 سبتمبر الجاري.