دخلت شبه جزيرة القرم، فجأة ودون سابق إنذار، دائرة الأحداث وبقوة، بانفجارين طالا قواعد روسية في شبه الجزيرة، التي سيطرت عليها موسكو منذ عام 2014.. مُني مراقبو الحرب الروسية الأوكرانية بموجات من الصدمات بمجرد الإعلان عن الانفجارات التي خلفت وراءها خسائر كبيرة لم تكن متوقعة، غير أن الغموض لا يزال يكتنف طبيعة تلك التفجيرات وكيف تم تنفيذها؟
ودارت التساؤلات حول آلية تنفيذ تلك الهجمات التي لازالت حتى اللحظة غامضة، وراح البعض يتساءل هل نفذتها قوات خاصة أوكرانية تسللت إلى شبه جزيرة القرم؟ أم هل نفذت عبر صواريخ أو مقاتلات حربية تمكنت من اختراق أجواء القرم الخاضعة للدفاعات الجوية الروسية؟ ويبقى تساؤل آخر وهو أين دور الذخيرة والدفاعات الروسية المهلهلة في تلك الحالة؟
وضع الصحفي في مجلة "بريكينج نيوز" الأمريكية والباحث في (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية) CSIS، مارك كانسيان، تصوراته لخمس نظريات أو سيناريوهات تحيط بالضربتين اللتين تعرضت لها قواعد روسية في شبه جزيرة القرم، كان أولاها في 9 أغسطس الجاري، وطالت "قاعدة ساكي الجوية" الروسية ويعتقد أنها تسببت في تدمير 8 مقاتلات روسية متطورة، والضربة الآخرى جرت في 16 من الشهر نفسه، ويُظن أنها استهدفت مستودعًا للذخيرة إضافة إلى قاعدة حربية روسية أخرى محتملة. وأفادت مصادر روسية بوقوع ضحايا مدنيين، وأظهرت مقاطع فيديو فرقًا روسية تزيل أنقاض من موقع التفجير.
وتكهن مراقبون بأنه من المرجح أن تتواصل مثل تلك الهجمات، غير أن آلية تنفيذها لا زالت مجهولة ويكتنفها الغموض، ولا يوجد تفسير متماسك واحد يشرح حقيقة ما حدث، بيد أن الباحث مارك كانسيان وضع خمس فرضيات محتمل حدوثها في الضربات التي لحقت بالخطوط الخلفية للقوات الروسية في شبه جزيرة القرم. وتقول فرضيته الأولى: إنها ربما تكون حادثًا، وهو ما ينفي ضلوع أوكرانيا فيها. ويرى أن مثل هذا الأمر يبدو غير مرجح. فمن جانبها تلقي روسيا بالتبعة على حدوث الواقعة الأولى، والتي أعقبها إهمال تسبب في حدوث التفجير الثاني، حسب التفسير الروسي.
ويرى الباحث أن الرواية الروسية تبدو غير متماسكة نظرًا لامتداد التفجيرات إلى منطقة واسعة واستهداف نقاط عديدة، بما يفترض أنه لم يكن تفجيرًا واحدًا نجم عنه تفجيرات ثانوية أخرى، ولاسيما أن مقاطع علنية كشفت وجود طائرة مقاتلة سليمة لم تمس بينما يحيط بها ركام مقاتلات أخرى دمرتها التفجيرات.
لذا، فإن الباحث في ظل تلك الفرضية والاستنتاجات التي توصل إليها، يرى أن أوكرانيا اتخذت بعض أشكال الفعل المباشر ضد تلك الأهداف، ويبقى التساؤل قائما حول كيف تم التدخل وبأي وسيلة.
وتقول الفرضية الثانية إن تخريبًا جرى على الأرض، وهذا يقود إلى تفسير يقول إن قوات خاصة أوكرانية أو جماعات مسلحة تسببت في التفجيرات.
وقد ألمحت الحكومة الأوكرانية إلى احتمالية ذلك، بينما وجهت روسيا اللوم إلى "مخربين" تسببوا في التفجير الثاني. ويقول الباحث إنه من الممكن أن تتسلل فرق إلى القاعدة الجوية أو إلى مستودع الذخيرة لزرع متفجرات.
بيد أنه يستدرك قائلًا: إن هناك ثلاثة إشكاليات تحيط بهذا السيناريو أولها أن تفجير "قاعدة ساكي" استغرق قرابة الساعة، وفي تلك الحالة ستحتاج فرق القوات الخاصة إلى الهروب خارج القاعدة الجوية، وذلك يستغرق وقتًا طويلا، ولم تكن هناك أي مؤشرات أن قوات الأمن الروسية اشتبكت أو قامت باقتفاء أي عناصر تخريب، وإلا فإن ذلك يعني انهيارًا صارخًا في تدابير الأمن الروسية في القاعدة وخارجها. وثانيها، أن شبه جزيرة القرم بها أغلبية ناطقة بالروسية، وهي متعاطفة بوجه عام مع روسيا، لذا فإن القوات الخاصة الأوكرانية سيكون من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلًا، إيجاد موقعًا للاختباء فيه مدة طويلة بين بيئة سكانية معادية.
أما الإشكال الأخير، فيتمثل في أن الحكومة الأوكرانية لديها كثير من الأسباب يدفعها إلى تورية الهجوم وإخفاء آلية تنفيذه، من قبيل إشاعة الخوف في المناطق الخلفية الروسية.. فالحقيقة هي أول ضحية في الحرب، و"ربما يود الأوكرانيون الاستفادة من نشر رسالة علاقات عامة تعكس مدى نجاح المقاومة ضد الغزاة الروس"، على حد تعبير الباحث.
ويستعرض الباحث فرضيته الثالثة، بالحديث عن صواريخ طويلة المدى، باعتبارها احتمالًا آخر لتنفيذ الهجمات.. لكن ما هي النوعية؟ يبين الباحث أن القوات الأوكرانية تبعد نحو 150 ميلًا (بما يعادل نحو 240 كيلومترًا) عن الأهداف التي تعرضت للضربات. غير أن صواريخ GMLRS التي يملكها الأوكرانيون بكميات وفيرة، لا يتجاوز مداها 45 (ميلًا (72 كيلومترًا) فقط. وحتى إذا افترضنا أن تلك النوعية أدخلت عليها تحسينات لزيادة مداها ووجود نوعيات منها فإن أقصى مدى لها لن يتجاوز 90 ميلًا (بما يوازي نحو 144 كيلومترًا).
وتكهن مراقبون بأن أوكرانيا ربما استخدمت صواريخ (TACMS)، ابنة العم الكبرى لصواريخ (GMLRS)، ويبلغ مداها نحو 180 ميلًا (بما يعادل نحو 290 كيلومترا)، وتتميز بإمكانية إطلاقها من منصات إطلاق صواريخ HIMARS الأمريكية، التي أصبحت في حوزة الأوكرانيين حاليًا.
وتلك الصواريخ قادرة على ضرب أهداف في وسط القرم انطلاقًا من خطوط الجبهة الأوكرانية الراهنة، ومزودة بقوة تفجيرية قادرة على أن تتسبب في الأضرار التي شوهدت في التفجيرات الأخيرة.
لكن الولايات المتحدة أكدت مرارًا أنها لن تزود أوكرانيا بصواريخ طويلة المدى، مخافة توجيه كييف لضربات في العمق الروسي، ما قد يؤدي إلى تصعيد الصراع. ومن جانبهم، أكد متحدثون باسم وزارة الدفاع الأمريكية، أن الأسلحة الأمريكية غير ضالعة في تلك الهجمات.
وتوقع مراقبون آخرون بأن أوكرانيا ربما عدلت صواريخ بحرية طويلة المدى لاستخدامها في هجمات برية، وقد يكون ذلك ممكنا، من وجهة نظر الباحث، ولاسيما أن الولايات المتحدة قامت أكثر من مرة بتعديل صواريخ لاستخدامها في غير أغراضها، على سبيل المثال تعديل صواريخ "توماهوك" البرية، و"سام- 6" المضادة لصواريخ الدفاع الجوي إلى صواريخ مضادة للسفن. وقد تجد أوكرانيا ذلك تحديًا في ضوء صغر قاعدة تكنولوجيا الدفاع وحالة اقتصادها الرازح تحت وطأة الحرب، لكن الدولة برهنت على قدرتها على القيام بتطوير بعض التسليحات العسكرية، لذا من غير المستبعد أن تكون قامت بذلك.
وينتقل الباحث كانسيان إلى الفرضية الرابعة بأن تكون أوكرانيا نفذت هجماتها بطائرات مسيّرة، مؤكدًا أنه يمكن من الناحية النظرية توجيه ضربة للقاعدة الجوية باستخدام طائرات مسيرة مزودة بصواريخ، أو من خلال ارتطامها المباشر بالهدف، لكن المشكلة في تلك الفرضية تكمن في مدى المسيرات.. فجميع الطائرات المسيرة الأمريكية من طراز "كاميكاز" من نوعيات "سويتشبليد" أو "جوست فونيكس"، لها مدى طيران قصير، لا تكفي للوصول بها إلى وسط شبه جزيرة القرم. كما أن الطائرات المسيرة من طراز TB-2، التي تستخدمها الأوكرانيون بكثافة، لديها مدى طيران طويل للغاية، لكنه مقيد بمدى 150 ميلًا (بما يعادل 240 كيلومترا) لاعتبارات الاتصالات. وتنفيذ هجوم في وسط القرم سيقف عند الحد الفاصل والأقصى للسيطرة على المسيرات.. ولأن كل طائرة مسيرة BT-4 تحمل أربعة صواريخ كحد أقصى، فمن المحتمل أن يتطلب تنفيذ المهمة أربع أو خمس طائرات لتنفيذ ضربات لنقاط استهداف ممتدة مثلما أظهرتها الصور المعلنة. إلى جانب ذلك فإن، تلك المسيرات بطيئة ومرئية، لذا فيمكن لأي شخص رؤيتها أو سماع أزيزها.
ووصل الباحث إلى الفرضية الخامسة والتي تتحدث عن "انتقام سلاح الجو الأوكراني". وهو احتمال أخير يستعرضه الباحث بأن تكون الضربات نفذتها مقاتلات أوكرانية، وعن طريق استخدام قنابل موجهة مثل طراز JDAM، فإن مثل هذا التدمير ممكن حدوثه. ويمكن لعدد قليل من المقاتلات أن تحمل عشرات من القنابل اللازمة لضرب نقاط الاستهداف التي ظهرت في التفجيرين الأول والثاني في 9 و16 أغسطس الجاري. ورغم أن أوكرانيا غير معروف أن بحوزتها تلك النوعية من القنابل الموجهة، فإنه ربما تكون الولايات المتحدة قد زودتها بها، ولاسيما أنها سهلة الاستخدام نسبيًا. كما أنه من الممكن استخدام ذخائر وقذائف منتجة محليًا داخل أوكرانيا، أو أسلحة وردت إليها من حليف أوروبي آخر، وهو ما يعكس مدى انفتاح بلدان "الناتو" إرسال عتاد وأسلحة لمساعدة كييف في حربها ضد روسيا.
وتكمن الإشكالية هنا في أن المقاتلات الأوكرانية لتنفيذ هذه المهمة يكون عليها أن تحلق على ارتفاعات منخفضة حتى تتجنب الدفاعات الجوية الروسية، ولم ترد أي تقارير على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى وجود طلعات لطيران أوكراني منخفض. كما أنه في نقطة معينة أثناء تنفيذ المهمة سيرصد الجانب الروسي المقاتلات الأوكرانية على أجهزة الرادار، لأن النقاط المستهدفة تقع في قلب منطقة تحيطها روسيا بدفاعات مكثفة. وحتى أنظمة الدفاع الجوي المهترئة، كانت ستتعامل مع مثل تلك الطلعات في الهجوم الثاني.
ويختتم الباحث بالحديث عن أهمية محاولة فك طلاسم الهجمات الغامضة التي ضربت شبه جزيرة القرم، مؤكدًا أن الصدى الذي أحدثته الضربات، يستلزم استجابة من روسيا، التي ترى أنها بحاجة إلى اتخاذ تدابير مضادة للحماية من الهجمات، وتلك الإجراءات تتطلب موارد عسكرية وتقنية لتقوية معايير تأمين قواعدها وتعزيز رادارات الاستطلاع، وهو ما قد يؤدي إلى سحب عتاد من الخطوط الأمامية في جبهات القتال.
ويؤكد الباحث أنه مع استمرار الغموض الذي لازال يحيط بهجمات القرم، فإن الروس بالتأكيد بات لديهم إجابة لما حدث، فمن خلال سجلات رادارات الرصد، وتقارير المراقبة، وتقييم حجم الأضرار الناجمة عن الضربات، بات لدى الروس الكثير من البيانات حول كيفية تنفيذ هجوم واحد من الهجومين، على الأقل. ولفت إلى أن القريب العاجل ربما يحمل إجابة تكشف أسرار التفجيرات الغامضة التي شهدتها شبه جزيرة القرم في أغسطس الجاري.
العالم
مجلة أمريكية ترصد خمسة سيناريوهات محتملة لكشف غموض انفجارات القرم الأخيرة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق