رافقت خالد محيى الدين فى رحلتين إلى خارج البلاد.. إحداهما إلى العراق والأخرى إلى دولة اليمن الجنوبى التى كانت قائمة، قبل اندلاع الحرب الأهلية، والوحدة القسرية بين شطريه، وتمدد حرائق الربيع العربى، إليه لتحوله من يمن سعيد إلى خراب عميم.
وفى الرحلتين تكشفت أمامى بعض صفاته الشخصية، التى أثرت فى تشكيل وعى أجيال متعاقبة ممن اقتربوا منه، وعملوا معه. كان الدرس الأول الذى علمنا إياه، أن تكون أولويات الحياة هى إتقان المهنة لأنه يقود إلى الاهتمام بالأسرة وبالحزب معًا. كان أبًا وصديقًا قبل أن يكون زعيمًا لحزب التجمع الذى أسسه، ووهبه ما بقى من عمره، وشرفت بالانضمام إليه فى الشهور الأولى لتأسيسه فى أبريل عام ١٩٧٦.
وفى المرتين، كان يحرص على أن يقدمنى لمسئولى الدولتين بفخر منحنى ثقة كبيرة فى النفس، وقدرة على إتمام عملى الصحفى بشكل أكثر يسرًا وسهولة، وهو المنهج الداعم الذى رسم علاقته بشباب حزب التجمع فى كل الأوقات.
فى بغداد، اتصل بى فى غرفتى لينصحنى بعدم الذهاب لحضور الخطبة التى كان مقررًا للرئيس صدام حسين إلقاؤها، بعد أن أسدى إليه مرافقه نفس النصيحة، لأن حرس القاعة يمنع دخولها، بعد بدء الرئيس خطابه، وقد تأخرنا عن الموعد المحدد.
وفى عدن، بكى بدموع حارة حين قلده قادتها أعلى الأوسمة اعترافًا بتاريخه الناصع فى الدفاع عن الاشتراكية والديمقراطية والسلم العالمى. لم أشأ أن أسأله عما وراء تلك الدموع الساخنة، فهو أمر يمكن استنتاجه، لكن ما بهرنى هو تصرفه التلقائى ممن هو فى مثل مكانته، الذى لا يخجل من التعبير عن مشاعر إنسانية غائرة العمق، بالبكاء.
ففى عام ١٩٥٦ قلد الرئيس عبدالناصر، رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، قلادة النيل التى تعد أعلى الأوسمة المصرية، مستثنيًا خالد محيى الدين، الذى كان قد استقال من عضويته فى أعقاب خلافات أزمة مارس الشهيرة، وانتهت بنفيه إلى سويسرا عام ١٩٥٤، وهى التى منحها له الرئيس عدلى منصور عام ٢٠١٣.
وعند مغادرته مطار القاهرة منفيًا إلى سويسرا ربما كان «خالد» يصف نفسه، وهو يتذكر قول ولى الدين يكن: «مساكين أنصار الحرية، يدافعون عنها، فيفقدون هم حريتهم». وكان «خالد» قد اختلف مع مجلس قيادة ثورة ٢٣ يوليو، حول الشعار الذى رفعه «عبدالناصر» فى ذلك الوقت، وهو: «إما الثورة أو الديمقراطية»، وكان «محيى الدين» يظن آنذاك، أن سياسة وضع تناقض بين الثورة والديمقراطية خاطئة، ويعتقد أن الطريق الصائب هو الحفاظ على الثورة، عبر مسار ديمقراطى يطبق الهدفين معًا. فدعا إلى انتخابات لجمعية تأسيسية، تتيح تكوين الأحزاب وتعد لانتخاب برلمان جيد وتبقى لمجلس قيادة الثورة سلطة السيادة، طبقًا لدستور ١٩٥٤، الذى حدد نظام الحكم بجمهورية برلمانية، تفصل بين السلطات، وتجعل الأمة مصدرها الرئيسى، وانتهت تلك الأزمة بنفيه وبإلقاء دستور ٥٤ - كما قال الفقيه الدستورى وحيد رأفت - فى صندوق القمامة، وفى مذكراته، أعاد «خالد» تقييم موقفه واصفًا الموقف الذى اتخذه «ناصر» بالصائب، لأن الثورة لم تكن قد رسخت بعد أقدامها.
فتحت الصحف بعد نشوب تلك الأزمة، نيران هجومها على «خالد»، وفى غمارها وصفه «السادات» بـ«الصاغ الأحمر».
بعد نحو ثلاث سنوات فى المنفى، عاد «خالد» إلى مصر ليؤسس صحيفة «المساء» التى باتت منبرًا للقوى اليسارية المساندة للتوجهات الوطنية للثورة، المناهضة للمخططات الاستعمارية، ولأحلافها فى المنطقة، كما أُنتخب نائبًًا لدائرة كفر شكر فى معظم المجالس النيابية لمصر.
وبعد غياب «ناصر» عن الساحة السياسية، سمح خلفاؤه بمجال لا سقف له، للانتقام من تجربته الرائدة كأحد أبرز قادة حركة التحرر الوطنى فى العالم، لتصفية حسابات الخصوم والأعداء معه ومعها، وظن كثيرون أنه فى عالم الصراع على السلطة تتوارى المشاعر وتسقط العواطف وتنهار الصداقات الحميمة وتخبو المودات وتختفى المبادئ. لكن من راهن على أن يكون الأمر كذلك مع خالد محيى الدين، لم يكن يعرفه.. فحين بات مسموحًا بتشكيل الأحزاب، تزعم الدعوة مع فريق من قادة اليسار المصرى، من مختلف التيارات، لتشكيل حزب التجمع الذى انطوى برنامجه التأسيسى على مبادئ ثورة يوليو، وضم فى صفوفه الناصريين والقوميين والدينيين المستنيرين وفصائل متعددة من اليسار، وكانت تلك صيغة فريدة فى العمل الحزبى والسياسى، لعبت شخصية «محيى الدين» المتفردة، الدور الرئيسى بجانب عوامل أخرى فى نجاحها واستمرارها.
وحين قرر «خالد» نشر مذاكراته عام ١٩٩٢ اختار لها عنوان «والآن أتكلم» وهو عنوان يقول من بين ما يقول، إنه يدلى بشهادته عن الثورة التى شارك فى قيامها، وكان أحد خمسة أسسوا تنظيم «الضباط الأحرار» فى عام ١٩٤٩، ليقدم الحقيقة كما عاصرها، ويستكمل جوانبها بعد أن هدأت العواصف وبعدت المسافات، وتغيرت أحوال مصر والعالم.
وفى أزمة مارس، أرسى «خالد» مدرسة لأصول وقواعد إدارة الخلافات مع الرفاق، وهى تغاير مثلها مع الأعداء. لم يستخدم السلاح لإنهائها، بل احتكم للحوار، ودافع عن موقفه بالنقاش، موضحًا أن عودة الديمقراطية والإفراج عن المعتقلين السياسيين من شأنهما أن يكرسا المكانة السياسية لثوار يوليو، وأن يرتبطا بالمصالح الحقيقية للشعب والوطن. كانت تلك المعركة كما وصفها فى كتابه، مسألة حيوية لمصر ويستحق الإنسان أن يضحى من أجلها بالمنصب مهما كان رفيعًا.
ظلت تلك المبادئ الرفيعة السامية التى أرساها خالد محيى الدين فى ممارسة العمل العام، نموذجًا للاقتداء، وللفطنة والنزاهة العقلية لكل من امتلك الكفاءة والقدرة على المشاركة فى الصناعة الحية لصفحات مضيئة فى لتاريخ المصرى المعاصر.
آراء حرة
صفحة مضيئة فى التاريخ المصرى
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق