توافق إنسانى وفكرى منذ الستينيات حتى آخر العمر البداية داخل «أخبار اليوم» عام 1964..
خالد محيى الدين كان رئيسًا لمجلس إدارة المؤسسة ورفعت السعيد فى بدايات مشواره الصحفي بعد خروجه من المعتقل.
إنها حالة تفوق الوصف، كيف يمكن أن نصف تلك العلاقة التاريخية بين خالد محيى الدين والدكتور رفعت السعيد؟.. كيف بدأت ونمت على مر الزمان بين الزعيم وتلميذه النجيب؟.. لعله التوافق الفكرى والارتياح النفسى والاحترام المتبادل والثقة غير المحدودة فيما بينهما، فقد كان لكل تلك العوامل «مفعول السحر» ورسخت كل معانى الالتقاء الروحى بينهما فى علاقة قوية ومتينة ومبهرة كسبائك الذهب اللامع حتى آخر لحظة فى الحياة.
ومن تصاريف القدر، مثلما جمع بينهما تاريخ طويل من العمل المشترك، فقد جمع بينهما أيضًا يوم ١٧ أغسطس، الذى يوافق هذا العام مرور مئة عام على ميلاد الفارس خالد محيى الدين، وخمس سنوات على رحيل القائد والمعلم الدكتور رفعت السعيد.
كانت البداية داخل مؤسسة «أخبار اليوم»، عام ١٩٦٤ حيث كان الزعيم رئيسًا لمجلس إدارة المؤسسة، وكان رفعت السعيد فى بدايات مشواره الصحفى بعد خروجه من المعتقل.
لا نعرف بالتحديد كيف بدأت العلاقة بينهما، لكن المؤكد والثابت أنها نمت وتوطدت بينهما حتى إنك تستطيع أن تقول إن «السعيد» أصبح كاتم أسرار «محيى الدين» وذراعه اليمنى داخل المؤسسة، واستمر كذلك حتى آخر العمر.. لكن وجود خالد محيى الدين على رأس «أخبار اليوم» لم يستمر سوى عام واحد فقط، فاستقال بعد وشايات ومحاولات وقيعة بينه وبين جمال عبدالناصر.
لكن العلاقة بينهما لم تنته بخروج «محيى الدين» من المؤسسة، بل إنها تعمقت أكثر وأكثر.. كان «السعيد» يعتبره زعيمه وأستاذه وصديقه أيضًا، وحرصا خلال فترة إبعادهما عن العمل العام، على تنظيم قراءة مشتركة وتثقيف ذاتى معًا، مما أسهم أكثر فى التقارب الفكرى بينهما، ومثلما كانا معًا فى «أخبار اليوم»، عملًا معًا فى مجلس السلام العالمى واللجنة المصرية للسلام ونزع السلاح.. كان «محيى الدين» نائبًا لرئيس مجلس السلام العالمى ورئيسًا للجنة المصرية، وكان رفعت السعيد ساعده الذى يعتمد عليه فى فعاليات اللجنة بمصر كما أرسله لفترة للعمل ضمن طاقم مجلس السلام العالمى فى هلسنكى.
وعندما فكر «محيى الدين» فى تأسيس منبر اليسار، لم يجد أقرب من رفعت السعيد إليه ليكون بجانبه، ويساعد فى الاتصالات وتجهيز الأوراق اللازمة وترتيب الاجتماعات التمهيدية التى كانت يعقد معظمها فى منزل الكاتب الصحفى حسين فهمى، نقيب الصحفيين لعدة دورات ورئيس تحرير «الأخبار»، وكان لفترة «القراءة المشتركة والتثقيف الذاتى» دورها المؤثر فى بناء حزب التجمع، حيث البحث عن حلول توافقية ترضى الذين جاءوا من مدارس فكرية مختلفة، ونجح الزعيم وتلميذه فى هذا الأمر نجاحًا منقطع النظير فى ظل عقل واحد وتفكير مشترك يجمعان بينهما.
كانت كيمياء العلاقات الإنسانية فى أبهى صورها بشكل مذهل يفوق أى محاولة لوصف تلك العلاقة، ولم نشهد طوال فترة التجمع، أى خلاف بينهما عند مناقشة أى قضية من قضايا العمل السياسى أو الحزبى.. كان كلاهما يكمل بعضهما فتستمع إلى خالد محيى الدين يتحدث فى الاجتماع ليقنع الحاضرين بفكرةٍ ما، ويلتقط الخيط رفعت السعيد ويكمل، فتشعر بأن خالد محيى الدين ما زال يتكلم.
وبكل اليقين، فإن عمق هذه العلاقة ساهم بدرجة كبيرة فى عبور التجمع أزمات عديدة، سواء على المستوى التنظيمى الداخلى أو على مستوى المواقف السياسية، وجعلت سفينة أول حزب علنى لليسار المصرى تصل دائمًا إلى بر الأمان رغم كثيرٍ من الأمواج المتلاطمة التى واجهت تلك الصيغة الجديدة.
وقد يتعجب البعض من هذا التوصيف، عندما يعرفون شخصية خالد محيى الدين الهادئة وشخصية رفعت السعيد الهادرة، لكننا ما كنا نرى سوى التوافق التام بينهما، وكان التلميذ خارج الاجتماعات ينصت باهتمام للزعيم ويتناقش معه بهدوء غير معتاد، لتتأكد فى النهاية أن الاتفاق الفكرى بينهما حائط صد يحمى العلاقة من أى تصدع مهما كان بسيطًا.
كان لى شرف العمل تحت قيادتهما، سواء فى حزب التجمع أو اللجنة المصرية للسلام، وأدين لهما بالكثير الذى تعلمته منهما والدروس التى لا يمكن أن أنساها، والثقة التى منحاها لى فى العديد من المواقف.
ومن حقى أن أفتخر دومًا بأن الزعيم خالد محيى الدين اختارنى «الممثل الشخصى» له للسفر إلى موسكو وحضور الاحتفال بتفجير أول رأس نووي بناء على اتفاقية ريجان/ جورباتشوف، والذى أقيم بجمهورية كازاخستان، وكنت العربى الوحيد فى الاحتفال ضمن وفد عالمى من ٣٣ شخصًا.
اختلف «محيى الدين» مع «عبدالناصر» ورفاقه، لكنه لم يكره وطنه فى أى لحظة، وقرر «عبدالناصر» نفيه، ولكن ترك له حرية اختيار البلد الذى يتوجه إليه فاختار خالد محيى الدين سويسرا، ورغم نفيه اختياريًا فقد كان هو مهندس صفقة كسر احتكار السلاح، وأجرى باسم مصر، وبطلب من «عبدالناصر»، مفاوضات الحصول على السلاح من الكتلة الشرقية، ونجح فى تحقيق الهدف فى مواجهة محاولات أمريكا حصار مصر.
لم يقتصر دوره على الشأن المحلى والعربى فقط، فهو واحد من قادة حركة التحرر الوطنى فى العالم، بحكم كونه أحد مؤسسى مجلس السلام العالمى وشارك فى مؤتمرات دولية عديدة من أجل السلام القائم على الحق والعدل، ومن أجل تطهير العالم من أسلحة الدمار الشامل، وبحكم منصبه الدولى، وتقديرًا لمكانة مصر، استطاع أن يعقد مؤتمرًا بالقاهرة تحت إشراف الأمم المتحدة، تحت شعار «من أجل شرق أوسط.. خالٍ من أسلحة الدمار الشامل»، وشارك فيه كثيرون من أنحاء العالم يتقدمهم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، ونالنى شرف اختياره لى أمينًا للمؤتمر.
أما القائد والمعلم الدكتور رفعت السعيد، فإن المواقف كثيرة ومحفورة فى الذاكرة على مر الزمان، منذ توجهت فى أبريل عام ١٩٧٦ لمقابلته، دون موعد مسبق، في مكتبه بجريدة «الأهرام» لطلب الانضمام لحزب التجمع، جلست أمامه شابًا حديث التخرج دون أن أنطق بكلمة، بينما كانت يده اليمنى تمتد لتفتح درجًا من أدراج مكتبه وتخرج محملة بكمٍ من الرسائل محفوظة داخل الأظرف الخاصة بها.. يضعها على سطح المكتب قائلًا: «فاكرك.. دى جواباتك اللى كنت بتبعتها لـ(الطليعة)».
وحتى هذه اللحظة، ورغم مرور أكثر من ٤٦ عامًا على اللقاء الأول، فإننى لا أعرف السر وراء اختيارى «رفعت السعيد» من بين أسرة تحرير «الطليعة» كى أبعث إليه برسائلى، وقد استمرت معرفتى به وتوطدت العلاقة أكثر وأكثر على مدى كل هذه السنوات.. اختلفنا واتفقنا، تعاركنا كثيرًا، لكنه كان دائمًا السباق إلى التسامح والسمو عن الصغائر والحرص على الاحتواء كأى أب حريص على أبنائه مهما بلغ بهم الشطط، وفي كتابه «مجرد ذكريات»، نالنى شرف كتابته عنى عندما سرد حكايات من دفتر حزب التجمع.
باقٍ أنت بيننا إلى يوم الدين مهما طال الرحيل زعيمنا خالد محيى الدين، وباقٍ أنت قائدنا ومعلمنا رفعت السعيد، نتذكرك ويتذكرك كثيرون كلما كان الحديث عن هموم الوطن، ونراك دائمًا روحًا ترفرف على أروقة الحزب عندما ندلف داخلين إلى قاعته الرئيسية.. سلامًا على روح كلٍ منكما وسلامًا على الصابرين.