في أحضان قريتي الريفية البسيطة "بسنتواي"، نشأت وترعرعت حتى اشتد عودي وكمل ساعدي، وبسنتواي هي إحدى قرى مركز أبوحمص بمحافظة البحيرة، وقيل أن اسمها" Absent wey "كلمه فرنسية قديمة تعني الطريق المجهول "chemin inconnu"، وتواترت الروايات والحكايات حول سبب تسمية القرية الأم بهذا الاسم ما بين قائل أن سبب تسميتها بالطريق المجهول أن الحملة الفرنسية تاهت في جبال القرية حين قدومها مرورا بها إلى رشيد فلذا أطلقوا عليها هذه التسمية، بينما ذهب آخرون، إلى أن بسنتواي أصلها أبسنتاواي وهي اسم فرعوني قديم وإن كان يحمل في طياته معاني المجهول!
في هذه البيئة تفتحت عيناي أول ما تفتت في منزل العائلة الذي كان يضم جدي وجدتي وأبي وثلاثة أعمام وعمتان وأبي وأمي وأخ شقيق يصغرني وشقيقتان أحداهن تكبرني والأخرى تصغرني بسنوات قليلة.
كان جدي تاجرا بارعا في تجارته صاحب محل تموين وبقالة .
كان العيد في شارعنا أمام منزل العائلة وكانت فروشات الفاكهة والألعاب البسيطة...كانت كل هذه الأشياء رغم بساطتها تزين الشارع وكان الناس من بعد صلاة العيد يفدون إلى شارع العيد كما كانوا يطلقون عليه يلهون ويشرون حاجتهم حتى ارتسم في مخيلتي أن العيد لم يك إلا في هذا المكان فحيث ذكرت العيد تذكرت شارعنا الشارع الكبير أو شارع القاضي
كانت ملامح قريتي في يوم العيد تبدو كعروس تزينت لعرسها .
كنت أصعد فوق سطح منزلنا قبيل غروب الشمس حيث نسمات الهواء العليل وأرقب الطيور العائدة إلى وكرها صافات ويقبضن!
وكان يحلو لي في فصل الشتاء مراقبة الشفق الأحمر حين يرسم على صفحات السماء أحلى خطوط الجمال اللامنتهى له....
كان لنشأتي الأزهرية تأثيرها في تكويني النفسي والفقهي والذي اكتمل روحانيا بولوجي طريق التصوف.
لم أكن غير ذاك الفتى الباحث عن الحقيقه في دنيا الناس!
صعدت المنبر خطيبا وأنا في الصف الأول الإعدادي ثم جادت قريحتي بكثير من الأشعار في تلك المرحلة!
تأثرت كل التأثر بأحاديث شيخنا الشعراوي طيب الله ثراه وكنت أجلس بعد صلاة الجمعة إلى جانب أسرتي مستمعين له في صمت أثناء تناول وجبة الغداء.
وقد كانت عادة الريف حين ذاك تناول وجبة الغداء عقب صلاة الظهر وصلاة الجمعة.
كان الأب مكافحا في دروب الحياة من أجل توفير ما يعيننا على أمور حياتنا .
وكان رغم كفاحه مهاب الجناب يرتدي من الثياب أثمنها وأرقاها.
كان يمتلك سيارة ولطالما أعان بها من حوله.
توالت الأيام فتفوقت في دراستي الأزهرية والتحقت بكلية الشريعة والقانون عن حب واقتناع رغم أن درجاتي كانت كبيرة تؤهلني للالتحاق بكليات القمة كما يحبب للبعض أن يطلق هذا المسمى على كليات بعينها وإن كنت من خلال رؤيتي لا أرى كلية بعينها هي كلية القمة...فالقمة في فلسفتي هي أن يلتحق الطالب بأي كلية هو يحبها ثم يحقق القمة من خلالها.
وإلا فمئات الأوائل تخرجوا من الثانوية بشقيها العام والأزهري عبر عشرات السنين (فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا)!
تفوقت في كلية الشريعة والقانون وتخرجت بتقدير عام"جيد جدا" وكان حلمي وحلم الوالد_رحمه الله-من قبلي أن التحق بالسلك القضائي....
ورغم اني كنت قاب قوسين أو أدنى من التعيين وكيلا للنائب العام بعد اجتيازي جل الاختبارات
إلا أن الأقدار حالت دون ذلك وهذا كله لحكمة يعلمها الله وقد كشفت الايام عنها اليوم.
كان صراعا كبيرا يدور في حنايا النفس بين الأنا وتحقيق الذات.
كانت أسئلة تدور حول المستقبل الذي رغم علمي إلا أنني أيقنت اليوم أنه بيد الله وهو خير الامناء
كانت خطوات مترنحة بين المحاولة تلو الأخرى والخوف من الفشل!
كانت همة مثخنة بالجراح وصرخات مكتومة حول القادم المجهول وما ينتظر شاب في مقتبل عهده بالحياة العملية وقد بذل قصارى جهده من تفوق واجتهاد!
إلا أنني قبيل هذه المرحلة الحرجة كنت قد عرفت طريق القوم من آل بيت النبوة عليهم السلام فارتميت في أحضانهم مما حقق التوازن بين متطلبات النفس وحاجة الروح لغذاء روحاني يجعلها تسيطر على النفس فتكبح جماحها ..
كان هناك بصيص من الأمل بدأ يلوح في الأفق وشعاع من النور أخذ طريقه إلى القلب فسكن في خيمة الأقدار ورضخ لإرادة رب العالمين وهل فوق إرادته إرادة ؟
شققت طريقي نحو المحاماه حين رأيتها قلعة الدفاع عن الحريات وخط الدفاع الأول عن الحريات..
كان حب والدي رحمه الله لي يدفعه إلى البحث عن وظيفة يأمن بها مستقبلي فرفضت خمس وظائف حكومية حبا في المحاماه!
فصعدت درجاتها درجة تلو أخرى حتى حققت نجاحا حين ترافعت في أصعب القضايا غير هياب ولا وجل ولم تبخل علي المحاماه ولم تتخلى عني فمنحتني ثقة ومكانة ومادة كما لم أبخل عليها فالحمد لله ففي نعم الله الكثيرة وستره نرفل.
لم أتأفف في يوم من الأيام ولم اتصنع الحاجة ولم اضجر كما يفعل البعض رغم ثرائهم بل كما قال أحد الصالحين عودت وعودني...عودته على الشكر والنطق بآلائه وعودني على العطاء بلا حدود...
كانت موهبة الكتابة غريزة جبلت عليها فطرتي لا باختياري وحيلتي فكانت النتيجة أن شق قلمي طريقه نحو أكبر الصحف القومية والعربية بأعمدة ثابته قدمت من خلالها رؤيات مختلفة للكثير من القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأدبية بما يزيد عن خمسة آلاف مقال.
ثم كان الظهور من خلال شاشات التليفزيون المصري والفضائيات كمرحلة أخرى في حياتي مدافعا باكثر شمولية_ عن وطني ومبرزا تقدمه وتطوره وسيادته ناقلا آمال وتطلعات بني جلدتي وكيفية العبور نحو مستقل أفضل وغد مشرق ...
التقيت في رحلة عمري القصير بكثيرين منهم من رحل ومنهم من تخلى ومنهم من وقف بجانبي ولو بالكلمة.
فرحم الله من رحلوا وسامح الله من تخلوا وبارك في عمر الذين ما زالوا على قيد الحياة حتى نرتشف من رحيق وصالهم.
هذه رتوش من بعض جوانب حياتي وخربشات من مداد قلمي على صفحات عمري
وما زلت أعافر ..
آراء حرة
وما زلت أعافر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق