هناك نوعان من الكتابة، الأول هو الكتابة الرصينة، الواثقة، الصلبة، تلك الكتابة التي تُشعرك بأنها ثقيلة، وعندما تسير تدب على الأرض بخطوات ثابتة، كتابة تؤكد الحقائق وتشتبك مع كبرى القضايا الإنسانية بوقار واتزان، مثل "الحرب والسلام"، لليو تولستوي، و"الجريمة والعقاب" لدستيوفيسكي، و"دعاء الكروان" لعميد الأدب العربي دكتور طه حسين، وحتى "عصفور من الشرق" و"عودة الروح" و"أهل الكهف" لتوفيق الحكيم.
النوع الثاني من الكتابة هو الكتابة الرشيقة، الشاكّة غير المتيقنة، المرنة، تلك الكتابة التي تشعرك بأنها خفيفة، تطير بأجنحة الخيال وتحلق في سماء الإبداع الطازج، كتابة تطرح الأسئلة أكثر من تقديمها الإجابات، وتشتبك مع الإنسان نفسه فتُعرِّيه لا لتفضحه، بل لتحرره وتنزعه من ثباته كصخرة على الأرض، ليحلق معها في مجالات أرحب بفضاء الإنسانية، مثل "مزرعة الحيوان" (رواية) لجورج أوريل، و"مائة عام من العزلة" لجابريل جارثيا ماركيز، و"المخرب" (مسرحية) لسول بيلو، و"الحوذي" (قصة قصيرة) لأنطوان تشيكوف، و"ميرامار" (رواية) لنجيب محفوظ، فضلا عن "أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟" (قصة قصيرة) ليوسف إدريس، وغيرهم كثيرون من المنتمين لمدرسة الرشاقة الأدبية.
للنوع الثاني انتمى جيل التسعينيات والألفية الجديدة، بثورته على ما بعد الحداثة في الكتابة، والفكر، والفلسفة، والرؤية الأشمل، والأعم، ومن ثم التناول والطرح، ولجيل التسعينيات والألفية الجديدة، المجيد، ينتمي المبدع شريف عبدالمجيد، ومن يعرف هذا الرجل سيكتشف - بيُسر وسهولة - مدى ما يتمتع به من إنسانية مفرطة، وصدق بالغ، وفن رفيع، فهو يتناوب الإبداع بالكاميرا والقلم، حيث إن كل صُوَرِه التى التقطها تحكي قصصًا وتروى حيوَاتٍ، وتدخل عوالمَ بنظرة واحدة، تنطلق من أعين الناظرين التائهين، حين يرونها ويزفرون في وجهها بتنهيدة الحسرة والألم، أو الدهشة والانبهار، فهو يصور بقلم ويكتب بكاميرا، يستخدم آليات هذا في تلك، وفنيات تلك في هذا، وكل قصة يكتبها، بداية من مجموعته "خدمات ما بعد البيع"، مرورًا بـ"صولو الخليفة"، وصولًا - وليس انتهاءً - بـ"الببلوماني الأخير"، وهي أحدث مجموعاته القصصية، أقول إن كل قصة يكتبها شريف تكون بمثابة صورة التقطتها عينا مبدع مصوِّر يعرف الزوايا الأفضل لالتقاط الصورة وكتابة القصة، يجيد تسليط الضوء وبقعة الإضاءة على ما يريد من مناطق إنسانية، فيُظهِر أجزاءً ويُظلم أخرى، فى المشهد الواحد نفسه.
بتلك الآلية الشريفية (نسبة لشريف عبدالمجيد) يخرج فن الرجل، إنسانيًا مبدعًا وطازجًا، بلغة رشيقة خفيفة مرنة، تشتبك مع الواقع وتحرر الإنسان بتعريته أمام ذاته، امام أسئلته، أمام واقعه وبؤسه وأحلامه التى أحالها غياب العدالة إلى كوابيس، بل الأدهى أمام انحطاط الإنسان واستغلاله لمحنته ومرضه وهزيمته، ليحوّل كل ذلك إلى سلعة قابلة للبيع، كما في قصة "الذواق"، بداية مجموعة "الببلوماني الأخير"، فهاهو الرجل البدين الذي تتحول بدانته لسلعة يسوِّق بها للمطاعم، حتى حين داهمته الأمراض المترتبة عن تلك السمنة المفرطة، وكان لا بد من تكميم معدته، باع نحافته لشركات أدوية التخسيس، فمع تغوّل السوشيال ميديا فى حياتنا، تحول الإنسان إلى سلعة، بل إلى إعلان تافه عن تلك السلعة، ذلك الإنسان الذي كان بسيطًا يحلم بوظيفة آمنة، لها أجر معلوم، حتى ولو كان بسيطًا، فيصطدم بواقع بشع، غابت فيه العدالة الاجتماعية، فجدار الطبقية عالٍ وصلب وغير مسموح باختراقه، كما في القصة الثانية "رائحة الجوافة"، ومجرد المطالبة بالحق والعدل، يعتبرها المقيمون خلف جدرانهم العالية التي تحمى طبقتهم وطبقيتهم، تطاولًا من الأغبياء والتافهين خارج السور، رغبة وقحة فى اقتحام عوالمهم السرية، وهنا وجب التخلص منهم كحشرات تافهة في منازل الأثرياء، ليصير جزاؤهم السحق بالقتل لتستمر الحياة بنسقها الشاذ، ونمطيتها الطبيقية، فيكون القتل مباحًا ومشروعَا وقانونيًا أيضًا، لكونه مجرد دفاع عن النفس، عن الطبقة، عن القانون الطبيعي لتلك المهزلة، التي يحيا داخلها أبطال يرعونها ويتعهدونها بالحماية وعدم الاختراق، كالنجمة الشهيرة التي باعت جمالها وجسدها لمُسِنّ يكبرها في العمر كثيرًا، في صفقة متكافئة وعادلة الكل بها فائز، الجمال مقابل الشهرة، المال مقابل الجنس، كأي عاهرة، وكطرفي معادلة متساوية لا غبار على عدالتها، ولا على القيمة المتكافئة لكل طرف منهما لدى الآخر.
ذلك القتل الذي يتحول إلى فعل مرضي وهاجس نفسي في قصة "صاحب الرسالة"، والذي يريد التخلص من الفاسدين والشواذ والخونة بقتلهم بنفسه، وحين يكتشف أنه فاسد مثلهم، يتخلص من نفسه بالانتحار، مطبقًا قانونه على نفسه، دون أن يسمح للعدالة والقانون بالاقتصاص منه على جرائمه، فهو الذي يضع القانون وهو - بيده - الذي يطبق العدالة، ليموت على أنغام موسيقاه الخاصة، ولم تفلت من عدالته الظالمة تلك، سوى عاهرة سرقته في سرير الجنس.
عبر اثنتي عشرة قصة أو اثنتي عشرة تحفة فنية وصورة ملتقطة بقلم مصور محترف، يسير شريف عبدالمجيد برشاقة وخفة، بل يحلق بجناحيه في جزئيّ المجموعة، مكتشفًا ومصورًا وطارحًا ومفجرًا الكثير من الأسئلة، ومن زوايا تصوير فائقة الدقة، ومختارة بعناية شديدة، وإحساس مرهف، كما في قصصه: "الببلوماني الأخير، والمزرعة السعيدة، وبقية قصص المجموعة، ولدا مثلك، ورجل يشبهني، والجميع ينسون شيئا ما، وفي وقوع السيستم، وأخيرا خمسة عشر يوما"، مستخدما تقنيات كتابية طازجة في كل قصة، وآليات جديدة ومختلفة في كل مرة، ليتضح للقارئ- دون عناء وبغير مشقة - مدى نضجه ومقدار حرفيته، فهنيئا لنا نحن القراء وجود مبدع بيننا بحجم وقيمة شريف عبدالمجيد، وفي انتظار المزيد من قصصه وصوره قريبًا.
ثقافة
أشرف ضمر يكتب: الببلوماني الأخير.. حين نعري الإنسان لنحرره لا لنفضحه
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق