الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عبدالرحيم علي يكتب: درويش قصتنا الجميلة

عبدالرحيم علي
عبدالرحيم علي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حينما عرفناه منذ ثلاثين عاما، كانت براءتنا مخبأة فى كتاب القراءة، والنصوص العقيمة، يمامة خضراء حطت على قلوبنا تهدهدنا، تعلمنا، وتهدينا "اليقينا".
درويش قبلتنا وقدوتنا، حلمنا الأبدى بالفكرة، ما أصغر الدولة، ما أروع الفكرة، فكرة امتلاك الكون منذ الأزل، نحن.. البداية والنهاية والتفاصيل.
وعندما امتدت يداه لتربت على كتفي مشجعًا، ما بدأته "بحثا" منذ ثلاثين عامًا، وما بدأه شعرًا منذ خمسين عامًا، لم أنم ليلتى، طرت فرحًا، فها هو يمامتنا الصغيرة، حلمنا الأبدي، ساعتنا الرملية، منقذنا من ملل العبث فى كتاب النصوص العربية الميتة، يأتى على مهل ويربت فوق كتفى.. أنا الحزين.. الحزين.. حد اليتم.
تساءلت مع "إلياس نخلة" "بطل رواية الأشجار واغتيال مرزوق للراحل الحاضر عبدالرحمن منيف، هل رحل درويش حقًا؟ أم أنه الحلم يبهت شيئا فشيئا.. ورأيت إلياس يصرخ: تلك مشيئتك يا رب.. درويش لا، قلبى على قلبى ولكنى أقول الآن: لا.. كنا صغارًا حينها، عندما دب فى روحنا حزن جميل، مع سطور أيامه الأولى فى أحمد الزعتر ومديح الظل العالى.. أحمد العربى الذى هو درويش أيضًا، كنا صغارًا عندما ناطحناه شعرًا ونثرًا، ثم أوقفنا الكتابة. 
عندما قابلته فى المرة الأخيرة، قبل رحيله بأشهر قليلة، قلت له: أتعلم أننى أقلعت عن كتابة الشعر بعد قراءتك؟ وعندما سألنى عن السبب، قلت: لأنى عرفت أننى لن أكون درويش؛ قال لى: كن أنت أينما كنت وابتسم.
تلك النقوش الأولى المحفورة على حوافي روحنا كانت له، كنا قد ودعنا أحلامنا القديمة مع أمل دنقل، وأحمد عبدالمعطى حجازى، وصلاح عبدالصبور، عندما فتح لنا درويش آفاقًا جديدة للحلم بالفكرة لا الحلم بالدولة تلك كانت صياغته "ما أعظم الفكرة، ما أصغر الدولة!" ما أعظم الروح، ودرويش قصتنا الجميلة، كنا نمزجه بالطيب صالح، وعبدالرحمن منيف، وحنا مينا، والطاهر وطار، ورشيد بوجدرة، وحيدر حيدر، ويوسف إدريس، والعم نجيب محفوظ. الرواية بالشعر، والشعر فى الرواية، حتى أصلب عودنا، ونجحنا فى اجتياز الضفة الأخرى لمحنة الغربة فى الوطن.
هكذا كان درويش، حلمًا يلف الروح من أطرافها، أسطورة للحزن الجميل، شكلًا لاتجاه الريح فى البدن الضعيف، مسافة ما بين قلبى والبراءة.
هل أوقف الكتابة عنه.. هو الذى أحزننى وأفرحنى وطالبنى بالمستحيل، حينما قال لى أكمل.. فلن يكمل معركتك سواك.. هل كانت تلك نبرة حزن، أما أنها أروع ما فيه من حس.
أنا لا أحبه.. كم أحبه.. أيوب مات.. وماتت العنقاء. وانصرف الصحابة.. وها هو ذا يرحل.. أربعة عشر عاما مضت.. فماذا تبقى فى الكأس بعده.. كل الحانات أغلقت وأنت تهرب.. تهرب فى شوارع بيروت.. تريدها لك وحدك.. ويحاولون أن يمنعوك، هل أنت الذى أيقظتها إذن؟ أم هى التى قتلتك، عندما حملت سفاحًا من عدوك؟.
بين ريتا وعيونك لم تزل هناك البندقية، وأنت تباهي بتقبيل ريتا عندما كانت صغيرة، فهل تستطيع أن تكشف الآن مصير ريتا، وقبلتك الوحيدة، والنهار، ولمس الضفيرة للذراع.. أم أنها رحلتك الأخيرة؟
سلم على سرونا فى الأعالى، سلم على أهلنا هناك، وعم سلاما يا غريب.. عم سلاما يا غريب.