مسارات متعددة، ودروب مختلفة ذهبت إليها العامية المصرية وشعرها الخالد، المقاوم للزمن والأنواء، الشعر الذي يطوع جمالياته باستمرار لذلك الآن وهنا.
إن الشعر العامي روح راهنية، تستطيع القبض على جوهر اللحظة الحياتية دون عناء، خاصة ما يتصل بمعانقة الشعر للمحيط الاجتماعي، والقضايا السياسية، والثقافية، ودورانه في فضاءاتها واتخاذه وسيلة للتعبير الجمالي عن بلاغة المقموعين.
وتتعزز شعرية محمود الطويل في مسارات القصيدة المرتحلة إلى التعبير الجمالي عن أولئك المهمشين والمنسحقين:(ما باغنيش إلا لكل فقير كحيان / ساتر بدنه بالدبلان / واللي معاه لو كفاه/ يحمد ربه/ يشد غطاه).
وهي قصيدة مسكونة بالرفض، والتمرد، تنتمي إلى تراث مستقر في متن الشعر المصري، يمكننا أن نتلمس بعضا من ملامحها عبر دواوينه المختلفة ( عيونك سكة الفقرا، طرح الهوى، آخر العشاق)، وغيرها.
في (عيونك سكة الفقرا)
يبدو الديوان منفتحا على واقع معقد للغاية، حيث تطل سنوات السبعينات العاصفة، محملا بالمدلولات السياسية التي يصل بعضها الي مدى صاخب أقرب للشعار، وبعضها يبدو ناعما وشفيفا وإنسانيا. وفي كل يبدو محمود الطويل وهذا مناط الجدارة في منجزه الشعري مشغولا بروح الغناء التي لا تفارقه، روح ملؤها الحماس المتقد ابن السياق ساعتها، والأهم انها مسكونة بالشغف.. هذا الشغف الذي يمكن أن نجد جوهره في قصيدة من قبيل (بناديلك):
ونزرع شمسنا ضحكة
على شفه وليد أخضر
تدفي الأرض وتفتح
زهور أكتر
وتيجي مصر تتمخطر
طهور الواد
ويبقى الكف متحني
وندعي الأهل
ونغني
حبابينا اللي بتهني
نرش الملح والسكر
وحصوه ف عين
وهنا نلمح آليات جمالية متعددة من قبيل اللعب الاشتقاقي، والصور المتدفقة، والحضور المكثف للتراث الشعبي وتوظيفه توظيفا دالا في متن القصيدة، وكلها تكنيكات يلجأ إليها محمود الطويل في نصوصه المختلفة.
وفي (طرح الهوى) يقول الشاعر: ( احلمي بالشمس بكرة نور تدور/ع البيوت تغسل قلوبنا، والزهور/ ترسم البستان أمل/ يا غرامي اللي اكتمل/ والكلام اللي بيرقص في عينيا/ لما يسري جوه في قلب المدينة/ تنهض الناس الحزينة والغرام). هنا تشيع صورة شعرية مركبة تجدل بين المجاز والمشهدية البصرية في بنية متجانسة، تعتمد على الصور البيانية المتتابعة، وأفعال الحركة المتواترة.
تتخذ شعرية محمود الطويل
وضعية الشاعر المحفز، صاحب الوعي الرسولي، الراغب في غد اكثر جمالا وإنسانية، وهي وضعية الشعر في تجلياته الكلاسيكية المغلفة بروح الانشاد والمواويل أيضا، والمسحة الواقعية المستلهمة من حيوات البشر، وامانيهم، ومآزقهم التي لا تنتهي.
ففي ديوانه( اخر العشاق) المقسم على نحو مختلف اكثر حداثة: (بيبان العشق / عيونك اصل موالي،...) نرى جملته الشعرية الدالة (ومين غيرك يناديني أرد عليه)، حيث تهيمن ظلال رومانتيكية ناعمة، تسربت منذ القصيدة الأولى للديوان ( عيون الفجر بتفتح/ براعم خضر/ والأشواق/ ندى بيقابل العشاق/ بتغريد الصبايا السمر/ وتصبح/وتدعيلك/أتمنى يطول العمر/ واديلك/واطرز بالغناوي شاويشي منديلك)، وفضلا عن الولع بالصورة الشعرية، وخلق التخييل من قلب الإيقاع الدال غير المجاني، فإن روحا مصرية خالصة تهيمن على جوهر القصيدة، عبر تمصير اللغة، واستخدام مفردات تداعب الوجدان الشعبي وتعبر عنه في الآن نفسه.
ثمة مشروع شعري ممتد، ومنجز يخص صاحبه، يحمل تنويعات مختلفة في الشعر، والمسرح، وأدب الأطفال الذي يأتي مازجا لدى الشاعر بين جماليات الصورة والمنحى التعليمي الموصول بمقولات كبري عن الوطن، والانتماء، والفرح، والعروبة، وغيرها.
وبعد.. إن التعبير عن خصوصية البيئة المحلية المصرية، وظلالها الرحبة، وسياقاتها المتنوعة علامات تبقي المنجز الشعري لمحمود الطويل مضافا إلى مدونة العامية المصرية في تجلياتها المتعددة، والسامقة معا.