تظل غزة عنوانًا رئيسًا لتناقضات الداخل الفلسطينى وانعكاسًا لتعقيدات محيطها العربى وازدواجية المعايير الغربية، غير أن الصراع فى شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبى قد يساعد فى كبح جماح الشهوة الإسرائيلية لسفك الدماء.
باتت الإعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة من الأخبار الروتينية بالنسبة لسكان الشرق الأوسط، واعتاد الناس سماع أنباء سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى من المدنيين التى تمثل النسبة الأكبر من الأخبار والتقارير الواردة عبر وسائل الإعلام مقارنة بأنباء استهداف العسكريين والمبانى والمنشآت التابعة للفصائل الفلسطينية المسلحة.
حتى لحظات كتابة هذه السطور برز استهداف رأس طفل فلسطينى كفيف البصر بقذائف سلاح الجو الاسرائيلى ولا أقول إصابته بشظايا إحدى المقذوفات كما هو واقع الحال، ذلك أن المقذوف الصهيونى استهدف بالأساس مناطق مدنية بالكامل ما يعنى أن الحكومة الاسرائيلية أعطت أوامرها بقتل وحرق المدنيين الفلسطينيين قبل غيرهم من العسكريين فى سياق استراتيجية الدولة العبرية لنشر رسائل تهديداتها إلى أكثر من جهة فى منطقة الشرق الأوسط.
لكن وبعيدًا عن وجهات وفحوى تلك الرسائل ماذا يعنى هذا الاستسهال من جانب الكيان الصهيونى فى السير قدمًا وفق استراتيجية القتل والتدمير بلا حساب، لا لأعداد الضحايا وحجم الخراب، ولا للعواقب التى قد تنتظر اسرائيل جراء هذه الجرائم؟!.
أول ما يعنيه ذلك إدراك إسرائيل أنها لا تواجه فلسطين واحدة بالمعنى السياسى والعسكرى على الأقل، فقد جفت الحلوق من كثرة المناشدات بسرعة إنجاز مصالحة فسطينية فلسطينية بين السلطة فى رام الله وما تمثله وحركة حماس فى غزة وما تعبر عنه من فصائل وتيارات.
بعبارة أخرى، ماذا لو كنا بصدد قيادة فلسطينية سياسية موحدة تأتمر بأمرها مقاومة نظامية مسلحة تعمل بانضباط وفق استراتيجية يضعها الساسة فى هذه السلطة موحدة والتى تمثل كل فصائل وحركات المقاومة.
بحكم واقع التجربة الفلسطينية مع الانتخابات سعيًا لإيجاد سلطة ديمقراطية، يبدو لى على الأقل أن هذا المسار الديمقراطى إن جاز تسميته بذلك لا يواتى ظرف شعب يخوض حرب تحرير لأرضه ضد عدو تجرد تمامًا من إنسانيته باستثناء شكل جسده الآدمى وهو إسرائيل.
إذا كانت الديمقراطية مسار يصعب تحقيقه فى أغلب المجتمعات النامية بسبب مشاكلها وتحدياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودون أن تعانى من استعمار استيطانى متوحش، فهل بالإمكان الحديث عن تجربة ديمقراطية تقوم على انتخابات نزيهة وشفافة تدور فى الأصل بين حركات مسلحة بحكم واقعها ولم تمارس السياسة بمعناه الحزبى التقليدى فى ظروف عادية؟!.
أظن أنه قد آن الأوان أن يتوافق الفلسطينيون على تشكيل سلطة يمثل أعضائها كل فصائل وحركات المقاومة ثم يتم بعد ذلك اختيار رئيس لهذه السلطة إما بالانتخاب أو التوافق أيهما أوقع على أن يتجمع كل سلاح المقاومة تحت لواء هذه السلطة وإن أرادت الحركات والفصائل الاحتفاظ بمسمياتها فلتكن حينها تلك المجموعات كتائب وسرايا عسكرية تعمل داخل جيش موحد ملك للشعب الفلسطينى بأكمله وليس لهذه الحركة أو ذلك الفصيل.
بوضوح أكثر، لا مجال للخلاف والاختلاف حول اسلوب تحرير الارض، فيصبح العدو أمام شتات لا تجمعه رأس واحدة، وليكن الاختلاف داخل غرف مغلقة تجمع أعضاء سلطة موحدة حتـى يتفقوا علـى سياسة أو قرار فإذا نطق به رئيس السلطة لا يكون هناك مجال أمام العدو لإحداث فرقة أو فتنة ليجد نفسه أمام حائط صلب عنيد عنوانه الشعب الفلسطينى بأسره.
هذا الشتات الذى يعيشه الداخل الفلسطينى هو ما سمح بازدواجية المعايير الغربية بالتجسد والبروز على أشلاء القضية الفلسطينية، فنجد البيت الأبيض الأمريكى يصدر بيانًا فور بدء العدوان الصهيونى مفاده أن واشنطن تدعم تل أبيب فى عمليتها العسكرية فى الدفاع عن نفسها.
لا أعتقد أن الحديث عن هذه الإزدواجية يحتاج المزيد من الكلمات فنحن سكان الشرق الأوسط لم نعرف ذلك الغرب المتحضر إلا عنصريًا تجاه أغلب قضايانا، غير أن المحيط العربى الذى يعانى شأنه شأن الداخل الفلسطينى من هذا الشتات، كان أيضًا أحد الأسباب الرئيسة لكل تلك المواقف المتخاذلة لعواصم العالم الغربى والتى تتناسى كل شعاراتها المزعومة عن حقوق الإنسان وحرياته التى تبدأ بالحق فى الحياة ذاتها عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.
فرغم كل ما قيل عن الموقف العربى التلقليدى إلا أنه فى جوهره يعانى الشتات والفرقة فى الموقف من التعامل مع حكومة الاحتلال الإسرائيلى حتى أن بعض تلك المواقف خرجت عن سياق الواقعية السياسية، لذلك يبقى الرهان كله على وحدة الداخل الفلسطينى الذى إن لملم شتاته استطاع فرض إرادته على الجميع إقليميًا ودوليًا.
ومع ذلك تبقى هناك المواقف العربية المتشددة لصالح الحق الفلسطينى والتى تعتقد جزمًا أنه لا سلام بدون حل شامل وعادل يعترف بدولة فلسطينية على حدود يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس، هذه المواقف قد تجد عونًا لها فى أمرين أولهما إصلاح بنيتها الداخلية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وتكنولوجيًا، حيث لابد وأن تشعر إسرائيل بقوة المحيطين بها خاصة مصر السعودية العراق كونهم القوى الأكبر فى المنطقة، أما ثانيهما فيعتمد على هذا العالم متعدد الأقطاب والناشئ على وقع العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا بشرق أوروبا والصراع المحموم فى بحر الصين الجنوبى بين الصين والولايات المتحدة حول جزيرة تايوان.
اكتمال هذا العالم الجديد سيعنى مباشرة أن أمريكا لن تكون اللاعب الوحيد فى الشرق الأوسط والآمر الناهى فيما يخص القضية الفلسطينية وستتوفر للدول العربية المزيد من أوراق الضغط التى من شأنها تحجيم النشاط العدوانى الإسرائيلى وتقليص أطماع وأحلام الكيان الصهيونى الجيوسياسية فى المنطقة، وربما إجباره على توقيع اتفاق سلام عادل يرضاه الفلسطنيون حال توافرت الشروط الأخرى الخاصة بالداخل الفلسطينى والواقع العربى.
آراء حرة
غزة..!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق