أخيرًا تعترف صفحات القاعدة بموت أيمن الظواهري زعيمها ليلحق بركب العديد من الذين تم تصفيتهم تقريبا بنفس هذه الطريقة، وجاء في نعيه الحزين:
إذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ
وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً.
إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
بعد ساعة وأكثر من شروق شمس يوم 31 يوليو من عام 2022، كانت سماء كابول تستنشق عبير نسمة هواء باردة بعد يوم شديد الحرارة. كعادته خرج زعيم القاعدة، ووقف في شرفة منزله الكائن في وسط العاصمة الأفغانية كابل، يتمتم بأذكار الصباح.
وفي تمام الساعة 06:18 بالتوقيت المحلي (01:38 بتوقيت جرينتش)، سقط صاروخان على شرفة المنزل، وأسفرت الضربة عن تمزق جسد الظواهري بالكامل وتشتت في أرجاء الغرفة وانفصال الرأس عن الجسد، تلك الرأس التي طارت إلى آخر غرفة الظواهري، البالغ من العمر 71 عاما، دون إلحاق ضرر بزوجته أو ابنته في الداخل، ويبدو أن جميع الأضرار الناجمة عن الضربة انحصرت في الشرفة.
كانت ليلةُ لا تنسي في سماء كابل. تقاطر الرجالُ الملتحون الملتفون في ملابسهم الفضفاضة وعمائمهم الضخمة السوداء، فدخل كلٌّ منهم بسلاحه واحتضنه، وجلسوا وسط الغرفة الواسعة المفروشة بالسجاد الملون. أسند كلٌّ منهم ظهره إلى الحائط مذهولا هكذا انتهت حياة الظواهري.
تشابكت المحطات البارزة في حياة الظواهري مع أحداث إقليمية ودولية ومحلية؛ فمع كشف تنظيم سيد قطب وظهور كتاب "معالم في الطريق"، وهزيمة 1967، وظهور قضية الفنية العسكرية، ومرورًا بأحداث عام 1979 كامب ديفيد وأحداث المنصة، الغزو الروسي لأفغانستان، والغزو الإسرائيلي للبنان والحرب الروسية على الشيشان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، فكل تلك الوقائع وغيرها تحدث الظواهري عن أثرها عليه في كتبه العديدة التي دوَّنها، ربما كثير من الحوادث السياسية هي ما صنعت افكار وأطروحات ايمن الظواهري وصنعت منه نجمًا وأسطورة انتهت كما المتوقع بطريقة درامية.
لكن ما هي الأسباب التي قادت لمشهد نهاية الظواهري، وهل أفكار الظواهري قابلة للانشطار؟! في تقديري من الغزو السوفيتي للأفغانستان وطرق المعالجة الدولية التي تتكرر حتى الآن في سوريا والعراق والشيشان وأوكرانيا، يجب أن نعتكف لمعالجة ظاهرة الظواهرية وما نملكه من الواقع النفسي لقادة الشبكات الجهادية المعاصرة.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الهجوم الأكبر والأكثر دموية في العالم من حيث عدد من الضحايا في تاريخ البشرية اختفي الرجل عن الأعين، اختفي أكثر من واحد وعشرون عامًا،مؤبد تقريبا في السجون المصرية، واحد وعشرون عامًا بها كثير من الأسرار والخبايا الأكثر إثارة ودهشة في العالم، كان تنقلاته في الجبال الوعرة بين أفغانستان وباكستان تحسب بالسنتيمتر حتي وصوله المكان الأخير في قبل كابول، كان يتخفى أحيانًا في ملابس تاجر مواشي وبائع غلال في الأسواق الجبلية، وكان ينام في الطرقات الوعرة وسط القبائل علي انه شيخ ستيني قادم من جنوب اليمن، يمر علي المنازل ليلًا ليملئ الأكواخ بالمياه العذبة ( سقا)علي دابة مريضة حتي لا يشك أحد في أنه الرجل الاول في تنظيم القاعدة والأخطر والأول المطلوب في العالم، تري أين ترك الظواهري ومع من هذه اليوميات والمشاهدات ؟! الأيام حبلي بالمزيد.
لقد خاضت أمريكا حروبًا دامية في العراق وأفغانستان، خرجت منها مثقلة بالخسائر المادية والاقتصادية، واكتشفت لاحقًا التداعيات السلبية على قوتها وهيمنتها مثلما أقر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق مارك إسبر في مذكراته المنشورة مؤخرًا بعنوان "قسم مقدس: مذكرات وزير دفاع خلال أوقات استثنائية"، وهو ما يعضد كلام مدير السي أي إيه الحالي ويليام بيرنز في كتابه "القناة الخلفية"؛ حيث قال: (لقد تلاشت اللحظة الأمريكية التي دامت نصف قرن في الشرق الأوسط، نظرًا لتبني إدارة بوش مزيجًا من التشدد والغطرسة ردًا على أحداث سبتمبر؛ مما أدى إلى مضاعفة الاختلالات وتقويض النفوذ الأمريكي).
رحيل الإرهابي أيمن الظواهري يجب أن يكون عبرة لمن يعتبر؛ فنظرة بسيطة في أيام الظواهري الماضية تجعلنا نعرف مآلات طريق الظواهرية الجديد وفقه العنف في الايام القلية الماضية.
وإلي هذه السياقات الفكرية في حياة الرجل:
- تشير المعلومات الواردة من مصادرها أن أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة قتل قبل أسبوع على الأقل من الإعلان الأمريكي بمقتله.
- أحد قيادات حركة طالبان أراد التطهر فسربت معلومات للاستخبارات الباكستانية بمكان الظواهري السري.
- الاستخبارات الباكستانية ساعدت الأمريكان في القضاء علي أهم قيادة تاريخية للقاعدة بحسب اتفاق الدوحة السري.
- صاروخ Rx9 الذي استهدف الظواهري يدار بالذكاء الاصطناعي بعد تزويده بالموقع الجغرافي والاستشعارات الحرارية الدقيقة وروائح جسدية تم برمجته عليها.
- بعض عناصر طالبان زود مغتالي الظواهري بملابسه لبرمجة أنظمة الصاروخ عليه.
- الأمريكان لا يحتاجون إلى تأكيدات فنية ولا معملية ويحتفظون بحامض " DNA " من شقيقة محمد الظواهري الملقب بـ" أبي أيمن المصري " بعد القبض عليه عام 1999م من احدي الدول العربية ، وترحيله إلى مصر.
- الظواهري كان يتمني التواصل مع أسرته في آخر أيامه ( خارجيًا وداخليًا) هذا ما أكده لأحد قيادات الغرب برسالة مشفرة.
- الظواهري كانت عقدته الرئيسية في حياته اعترافه وتسليمه لرفيق عمره "عصام محمد كمال الدين القمري" رائد المدرعات عام 81، وقد أسر بذلك لبعض مقربيه، وكان يرى أنها أكبر نواقصه في حياته وكان يقول لو كان عصام حيًا لتولى قيادة الجهاد الأفغاني بل الجهاد العالمي!، وبكى بشدة عندما عايره "محمد عبد الرحيم الشرقاوي" القيادي القاعدي في منزله أثناء إقامته بأفغانستان عام 90، وقال له (ياعيل) أمن الدولة ضحكت عليك وسلمتهم عصام بكل سهولة، فخرج إلى شرفة منزله وأطلق عدة أعيرة نارية لتفريغ شحنة غضبة حينها!
- الظواهري أعدم عضو التنظيم محمد عبد العليم " أبو حذيفة" من منطقة عين شمس بدم بارد والذي كان رفيقه في الجهاد، لمجرد أنه سافر بدون إذنه تلبيه لنداء والدته للرجوع لتراه قبل وفاتها مما تسبب في القبض عليه ( منكرا إذن الوالدين في الجهاد)، واتهم عبد العليم بأنه تسبب في ظهور قضية "العائدون من أفغانستان " واعترافه على عصام عبد الجيد المكنى بـ "الجنرال " خاله الريان بعد القبض عليه ومعرفة الأمن لكثير من أسماء وكنى رفقاء الجهاد في أفغانستان، وحين رجع عبد العليم مرة أخرى إلى أفغانستان خطفه من منزله وعقد له محاكمة علي يد المجرم سيد إمام الشريف والذي حكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم "مرجان سالم" قيادي القاعدة بعد تعذيب عبد العليم وكسر عموده الفقري، وبقي عبد العليم يتألم أمامهم عشرة أيام يتبول ويتبرز علي نفسه فدخل المجاهد العظيم المجرم سيد أمام الشريف وقال لمرجان لماذا لم تجهزوا عليه حتي الآن "خللللللللللص"، فاطلق عليه مرجان سالم طلقا ناريا في الرأس فأرداه قتيلًا في الحال ورماه في حفرة بدون غُسل.
- الظواهري أعدم طلفين ( أحمد ومصعب ) وكانا لم يبلغا الحُلم بعد لاتهامهما بالعمالة لأجهزة الأمن المصرية في السودان، الطفلان لقياديين بتنظيم الجهاد المصري، وأعدما بطلقات في الرأس نفذهما مرجان سالم أيضًا ولم يندم علي هذا الفعل طول حياته، الولد أحمد ابن القيادي القاعدي عندما طلب منه كتابة وصيته لأبيه وأمه، كتب يقول" انتم السبب ولا احبكما"، أما مصعب ابن ابو الفرج اليمين فعندما سؤل هل حاولت التجسس علي الجماعة وتدخل شنطة متفجرات في المضافة الخاصة بجامعة الجهاد في السودان رد عليهم: هو كده (اي جاء على باله ان يفعل ما فعل)، في النهاية، أصدرت جماعة الجهاد حكم الإعدام على الولدين ونُفّذ. وقالت انها فجّرت السفارة في باكستان ردًا على عملية الخرطوم.
- الظواهري تسبب في كشف تنظيم الشرقية قضية 193 والتي وصل عددها الشباب المقبوض عليهم فيها 900 شاب وتسبب في كشف قضية طلائع الفتح الخمسة أجزاء والتي وصل تعداد شبابها المقبوض عليهم ثلاثة آلاف شاب وإعدام بعضهم لمجرد اثبات التواجد في مصر أمام الجماعة الإسلامية.
- الظواهري رفض كل أشكال المراجعات الفكرية رغم كل هذه الإخفاقات التنظيمية ومبادرات وقف العنف والتي عرضها عليه محامٍ شهير واعتبر كافة المراجعات تراجعات واتهم اصحابهم بانهم مثل بلعم بن باعوراء الناكص على عقبيه والمرتد عن الدين.
- الظواهري تسبب في موت الطفلة شيماء أثناء حادثة اغتيال رئيس الوزراء المصري عاطف صدقي، بسبب الموجه الانفجارية الشديدة أمام مدرسة المقريزي بمصر الجديدة مما تسبب بنزول لوح زجاجي على صدر الفتاة الصغيرة توفت علي اثره في الحال، وادعى أنه قتل خطأ وأصدر بيانا بتحمل الدية ونسى أنه دبر العملية من أولها ولولا رعاية لله لنالت من جميع من كان في المكان.
- الظواهري في آخر مؤلفاته "الكتاب والسلطان.. اتفاق وافتراق " كتب في المقدمة وكأنه يعبرعن نفسه الظالمة الأمارة بالسوء يقول " ووجدت سيلًا من الأخلاق غير الحميدة ينحدر على تيار العمل الإسلامي والجهادي، حتى صارت عند الكثيرين -وليس الأكثر- قيم الصدق والوفاء وتعظيم الوحدة والاجتماع، والحرص على الأوامر والنواهي الشرعية، والحذر من الخوض في الدماء والأعراض، صارت هذه القيم ينظر إليها على أنها بلاهة أو سذاجة أو تجمد أو تخلف عن المستجدات.
وفي المقابل صارت أساليب الغوغائية والكذب والافتراء والتعدي والتحايل والغش والجرأة على المحرمات من المفاخر والمزايا التي يمدح فاعلها.
وصار التكالب على السلطة والنفوذ والسيطرة سمة منتشرة، استحلت من أجلها الدماء، ونكثت من أجلها العقود، وشقت من أجلها الصفوف، وأبيح من أجلها العدوان والكذب والافتراء والسب والبذاءات.
ولفقت من أجلها الحجج الساقطات، فهذا خليفة وذاك سلطان وثالث متغلب، وكلهم مغلوبون تحت بطش العدو القاهر، أو تحت نفوذه وسيطرته"، وانت من أنت الذي كنت في سردابك وخفائك وطغيانك وولوغك في دماء إخوانك."
- الظواهري استشعر منيته بعد شائعات وفاته الأخيرة العام الماضي وخفف من القيود الأمنية التي فرضها علي نفسه في سردابه وسردياته، وكان بداية السهم الذي اطلق لنهايته وسكن بجوار حي السفارات بكابل، وبجوار وزير الداخلية الطالباني، ومؤخرًا طلب من اسرته مغادرة منزله بناءً علي نصيحة من حركة طالبان، وارسل لزوجته المسجونة في باكستان "الزوجة من قرية نهيا" رسالة يطلب منها الدعاء وان تسامحه في التقصير نحوها.
- شائعات مقتل الظواهري السابقة كانت على الأرجح من المخابرات الأمريكية لتأكد أكثر من المعلومات التي حصلت عليها من حلفائها وأصدقائها من المجاهدين السابقين في باكستان وأفغانستان صحيحة، وهي عبرة أخرى تؤكد كيف تحول رفقاء الجهاد إلي اعداء "كارامازوف" في اشارة واضحة إلي رائعة دوستويفسكي بعنوان "الأخوة الأعداء" لعلها تنير لنا درس التاريخ الماضي كيفيتخلص الاخوة من بعضهم البعض وقت الحاجة واللزوم ودرس الحاضر والمستقبل الصراع علي السلطة والزعامة.
- أسرة الظواهري في القاهرة علمت بالخبر من الإعلام ولا توجد أي اتصالات بينهم، وخاصة شقيقة محمد الذي يخضع للتدابير الاحترازية، منذ زمن بعيد واخر تواصل كان مع الظواهري كان من خاله محفوظ عزام بباكستان عام 88 ورتب الاتصال بينهم قيادات جهادية في فندق ببشاور بعد فجر أحد الأيام.
وأخيرًا ربما لم يبق من جيل جماعة الجهاد الذي ظهر في أواخر الستينيات، من أحدٍ ربما يكون الظواهري آخر هذا العنقود الذي أقلق بوجوده امريكا والغرب لم يبق من هذا الجيل إلا عددُ ضئيلٌ من الصامتين علي درب الجهاد، ممن اتخذوا طريق الكتابة بديلًا، مع حسراتٍ في القلب على ما فات.
ربما لم تنته أسطورة الظواهري بعد فهناك العديد من الظواهرية في العالم، أمريكا قتلت ميت، أعدمت ميت، ترك تراثا إرهابيا كبيرا في عالمنا العربي والإسلامي يعتبره الكثيرون أيقونة ومدادا لصفحات العنف القادمة، ربما قال الظواهري في صفحات مقدمة كتابه ما ينبغي ان يقال عنه، الظواهري خريج كلية الطب ظالم لنفسه ترك منهج الأجداد ليخلق لنفسه منهج الأحفاد المتهافت، ترك خط جده الشيخ الأحمدي الظواهري لأبيه، وعبد الوهاب عزام جده لامه لمنهج اهل الغلو والتطرف، الظواهري حسابه عند ربه كبير وكل من أوصله إلى هذه النهاية التعيسة المحتومة التي خشى بعض الرفقاء حتي نعيه مخافة الملامة وشمت فيه أقرب المقربين ممن يطلقون علي مجموعته يهود الجهاد من أبناء داعش وأخوتها.