في منزل زكريا واليصابات، وفي تسبحة القديسة مريم قالت بروح النبوة: «فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني». (لو 1: 48). فهل حدث هذا حقا؟ وهل كان للقديسة مريم مكانة خاصة بين مسيحيي كل العصور؟ وإن حدث هذا، لماذا لم يشر العهد الجديد إلى تفاصيل حياتها وانتقالها واصعاد جسدها؟ بحسب «يو 20 : 31» كتب العهد الجديد للإيمان أن يسوع هو المسيح ابن الله.
وهكذا لم يكن ثمة مجال للحديث عن شئ أو شخص آخر، بخلاف حياة الرب يسوع المسيح «الأناجيل»، وامتداد ملكوته «أعمال الرسل» والحياة بحسب إنجيله «الرسائل» وروعة مجده السماوي «رؤيا يوحنا»، ورغم ذلك لم يتركنا العهد الجديد دونما إشارة إلى مكانة السيدة العذراء في الكنيسة الأولى. فعبارة «فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني». (لو 1 : 48) التى سجلها القدس لوقا بعد نياحة السيدة العذراء سنة 60م، اشارة إلى استمرار تطويب القديسة حتى بعد نياحتها.
وفي حرص المسيح على تنفيذ مشيئة «مريم» في عرس قانا الجليل رغم أن ساعته لم تكن قد جاءت بعد «يو 2: 3-5»، إشارة إلى دالتها ومكانتها عنده، وفي حرص سفر الأعمال أن تكون «مريم» هي الإسم الوحيد المذكور مع الرسل في اجتماعهم الأول بعلية أورشليم بعد صعود المسيح «اع 1: 14»، إشارة إلى مكانتها الخاصة بين الأباء الرسل.
أما أقدم الاشارات إلى تكريم القديسة العذراء «مريم» ومكانتها الخاصة بين مسيحيي العصور الأولى فقد جاءت من سراديب الموتى المنتشرة في مختلف مناحى العالم الروماني، والتي كانت ملجأ المسيحيين للصلاة أوقات الاضطهاد العنيف، فوجدت لوحات جدارية تعود إلى نهايات القرن الأول تعكس محبة المسيحيين وتشفعهم بالسيدة العذراء، ظهرت فيها إما بمفردها أو تحمل الطفل يسوع أو منظر لها في البشارة أو الميلاد. أشهر هذه اللوحات تلك التي تقف فيها بين القديسين بطرس وبولس بسرداب الموتى في سانت أجنس بروما.
في بدايات القرن الثاني الميلادي 107م، يعتبر أغناطيوس الأنطاكى عذراوية القديسة «مريم» أحد أسرار ثلاثة أُخفيت عن الشيطان، وفي 125م تقريبًا يدعوها أريستيديس الأثينى العذراء المقدسة، وتصفها الرسالة إلى «ديوجسنس» المؤرخة بحوالي سنة 125م أيضًا بأنها «حواء الجديدة» الجديرة بالثقة، ويقول عنها «يوستين الشهيد» حوالى عام 155م أنها نالت إيمانًا وفرحًا عندما أعلن لها الملاك «جبرائيل» البشارة بأن روح الرب سيحل عليها وقوة العلي تظللها، وفي بدايات القرن الثاني يصفها «هيبوليتس» الروماني بأنها العذراء القديسة التي أخذ منها الكلمة جسده المقدس، وفي نحو عام 203م يقول عنها القديس «إكليمندس» السكندري إنها واحدة هى العذراء الأم، هي على الدوام عذراء غير مدنسة، وفي تعليق «أوريجينوس» على قول السيد المسيح للقديسة «مريم» عن يوحنا هوذا ابنك «يو 19: 26» يقول، إن كل إنسان كامل لا يحيا لنفسه بل المسيح يحيا فيه. يقال عنه لـ«مريم»: «هوذا ابنك».
في القرن الرابع يؤكد القديس كيرلس الأورشليي على لقبها والدة الإله، وفي نحو 351م يقول عنها «مارافرام» السريانى: «على الرغم من أنها لا تزال عذراء، إلا أنها حملت الطفل في بطنها، وأصبحت خادمة عمل حكمته»، وفى نحو عام 365م، يقول عنها القديس «إثناسيوس» في تجسد الكلمة المولود من الآب بشكل لا يوصف، غير مفهوم، أبدى هو الذى ولد هنا في الزمان من العذراء مريم والدة الإله.
ويعوزنا الوقت إذا عددنا الشهادات عن تكريم القديسة «مريم» ومحبتها وطلب صلواتها وتطويبها عند القديس «كيرلس» السكندري وأباء مجمع أفسس وليتورجيات الكنيسة الكنيسة التي تعود إلى القرون الأولى، وهكذا نرى أن تكريم السيدة العذراء كان تعليمًا أصيلًا على مر عصور الكنيسة، وفي مختلف المواقع التي وطئتها أقدام الكارزين، أنطاكية، الإسكندرية، أثينا، روما، وإلى منتهى الأجيال سيظل تطويب وتكريم العذراء القديسة الطاهرة مريم، عملًا دائمًا محببًا إلى كنائس وقلوب المسيحيين.