لا نزال نستعرض آفاق علاقة الأقباط بثورة يوليو، وفي هذا السياق، نتوقف أمام مسيحي آخر، وهو صليب سامي، الذي كان أول وزير حربية مسيحي، بل وشغل أيضًا وزارات: الخارجية مرتين، والصناعة والتجارة، والزراعة، إضافة إلي وزارة المالية، وأسس وزارة التموين، وذلك وفق ما ورد في كتابي (الأقباط 2000 عام من المشاركة والعزلة)، من تقديم الدكتور مصطفى الفقي، والصادر عن مؤسسة مجاز الثقافية، عام 2022.
ففى عهد أسرة محمد على «1805/1952» تم تعيين 22 محافظا قبطيا، وفى ذلك العصر أيضاً تبوّأ الأقباط سائر الوزارات، فمثلا «صليب باشا سامى» الذى لم يأخذ حقه من الباحثين، لأنه جسد وبحق السماحة الليبرالية، والمواطنة، ومعيار الكفاءة، هذا الرجل تبوأ، من وزارة حسين سرى باشا 1940، وحتى وزارة على ماهر باشا «24 يوليو 1952»، خمس وزارات وهي: «الحربية، التجارة والصناعة، الخارجية، الزراعة، المالية».
وأكثر من ذلك كان تبوأ الأقباط ثلاث مرات رئاسة الوزراء؛ وهم: «نوبار باشا، بطرس غالى باشا، ويوسف فهمى باشا»، وكأننا نتقدم للخلف، لأنه من المؤسف بحق أن مصر منذ 1952 لم تشهد، ولا مرة، تعيين قبطى فى وزارة سيادية، سوى "تعيين يوسف بطرس غالى وزيرا للمالية 1997".
الغريب والمدهش أنه قبل 200 عام تقريبا، كان محمد على أول «حاكم مسلم»، يمنح الأقباط رتبة «البكوية»، ويعيينهم كحكام أقاليم «رتبة المحافظ ورئيس المدينة حاليا»، فقام بتعيين كل من: بطرس أغا أرمانيوس، حاكما على برديس، فرج أغا ميخائيل، حاكما على دير مواس، وميخائيل أغا عبده، حاكما على الفشن، ورزق أغا، حاكما على الشرقية، باسليوس ابن المعلم غالى، مديرا لحسابات الحكومة، وحنا المنقبادى، سكرتيرا لمديرية عموم قبلى، والمعلمين: جرجس ويعقوب وبشارة وجرجس الطويل وأخيه حنا الطويل ومنقريوس البتانونى وإبراهيم نخلة، كتبة فى ديوان محمد على، وكان كبير كتبة «منصب رئيس ديوان رئيس الجمهورية حاليا»، محمد على قبطيا، وهو المعلم وهبة إبراهيم، ومن بعده المعلم نخلة.
وعلى هذا المنوال عين أبناء محمد «ثمانية ملوك»، 22 مدير مديرية، والأكثر إدهاشا من ذلك، هذه القصة التى تدل على الحد الأقصى من سماحة الإسلام، وليبرالية حزب الوفد، قبل التحالف مع الإخوان عام 1984 وصاعدا، كانت مصر ترسل سنويا كسوة الكعبة الشريفة لمكة المكرمة، وكان يصطحب «المحمل» أقدم لواء فى الجيش إكراما وإجلالا لطبيعة المهمة، وشاء القدر في عام 1929 أن يكون أقدم لواء هو نجيب مليكة باشا، وذهب الرجل ولم يحتج أحد، لا من المصريين ولا من سكان العربية السعودية.
حدث ذلك، وبعد عشرين عاما من ذلك التاريخ، أي في عام 1949، قُتِلَ المرشد الأول للإخوان الشيخ حسن البنا، ولم يجرؤ أحد من قيادات الإخوان على حضور الجنازة، ولكن الزعيم والمجاهد الكبير مكرم عبيد، تحدى الملك والإنجليز، وتفرد بالمشاركة فى الجنازة، مساندا عائلة البنا، في «غسل» المرشد، وحتى القبر، فى شجاعة لم يتحلَّ بها أى من أعضاء الجماعة، بما فى ذلك أعضاء التنظيم الخاص، الذين أمطروا مصر بالقنابل، ويمارسون الإرهاب بشتى صوره.
القضية ليست حصحصة، والبحث عن وظائف، حيث إن بطرس غالى، حظى برئاسة الأمم المتحدة، والعرف الوظيفى المصرى بعد عام 1952، لم يعطه حقيبة الخارجية!!، القضية استكمال المواطنة المنقوصة فى مصر، وإعادة مصر لمكانتها، عبر استعادة الأقباط لمكانتهم.
ولد صليب سامي عام 1885، كما توضح أوراقه، وليس عام 1861، كما هو شائع في الكتابات التاريخية الضعيفة، وتعتبر أسرته من الأعيان، حيث تمتلك 1500 فدان، "مذكرات صليب سامي- بقلم إيهاب عمر ـ الأهرام".
وفي عام 1929؛ اختير في منصب المستشار الملكي، باعتباره أول محامى يتولى هذا المنصب، ضمن مجموعة من مستشارين العرش، وفى هذا الإطار كان صليب سامي، هو أول من سعي لقانون يحمي الآثار المصرية من السرقة، على يد الأجانب خاصة الأثريين.
وعشية تعديل وزاري لحكومة صدقي باشا، استقال وزير الخارجية نخلة المطيعي، وأصدر فؤاد قرارا بتعين صليب سامي وزيرا للخارج.
ومع ذلك، فإن صليب سامي، عين وزيراً للحربية، وقد نجح في إعادة تسليح الجيش المصري بالبنادق الحديثة، فكان مفاوضاً بارعاً مع الطرف البريطاني، في شراء الأسلحة، كما قام بتهدئة الأجواء بين قيادة الجيش المصري، وبعض القيادات العسكرية البريطانية المتغطرسة.
وأنشأ سلاح الطيران الحربي المصري في الثلاثينيات في عهد وزارة إسماعيل صدقي، وفى عهد صليب سامي وزير الحربية استقبلت مصر السرب الجوي الثاني.
وحينما قام بصفته وزيراً للحربية، بتفقد حرس الحدود، على ساحل البحر المتوسط، من الإسكندرية الى السلوم، مروراً بمرسي مطروح، كتب صليب أن هذا الساحل يمكن أن تصبح شواطئ، لا تقل جمالاً عن أوروبا، ويحقق موارد ضخمة، لتصبح من أهم موارد الدولة؛ مشيرًا في معرض حديثه، إلى أن كافة تلك الأراضي، تتبع وزارة الحربية، على ضوء أنها مناطق حدودية، نافيا أسطورة أن تلك الأراضي ضمت للحربية، عقب ثورة 23 يوليو 1952، بوضع اليد، أو في ظروف غامضة.
وقال صليب نصاً في مذكراته، إنه بما أن هذه الأراضي ملكا لوزارة الحربية، فإنه يقع على عاتق هذه الوزارة استغلالها، ليتحول إلى مصيف عام للمصريين، ما يعني أن هذا الرجل الليبرالي، كان يرى أن على المؤسسة العسكرية، لا أن تقوم بإعداد هذه المشروع فحسب، ولكن إدارته أيضاً.
وأشار صليب، إلى أن خليج مرسي مطروح، أجمل من بحيرة برينز في سويسرا، وهو الرجل الذي تجول في شتى أنحاء أوروبا، تارة للسياحة وتارة للعلاج.
المدهش في نص صليب، هو أنه تنبأ عام 1934، بكافة مشاريع الدولة المصرية، التي تجري على قدم وساق اليوم، في الساحل الشمالي، سواء مدينة العلمين الجديدة، أو المصايف، مثل مارينا، إضافة إلى حزام المنتجعات السياحية، الذي أعلن عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مؤتمر الشباب، بجامعة القاهرة، صيف 2018، بعد 85 عاماً من طرح صليب سامي هذه الأفكار، في مجلس الوزراء، أتى وزير حربية/ دفاع آخر لتحقيق هذه الأفكار، عقب توليه رئاسة الجمهورية.
وصليب سامي هو أول وزير حربية، منذ الغزو البريطاني، يقوم بتوزيع الشهادات على خرجي المدرسة الحربية (الكلية الحربية الآن)، حيث كان يفترض أن يقوم بذلك قرينة المفتش العام البريطاني للجيش، ولكن صليب قدم عقيلته لهذا الإجراء، وسط تصفيق وتهليل ضباط الجيش، على تمصير هذا الإجراء البروتوكولي، وتسلمهم لشهاداتهم من يد امرأة مصرية، عقيلة وزير مصري، بدلاً من عقيلة ضابط بريطاني. (إيهاب عمر الأهرام ـ مرجع سابق).
وفى هذا التوقيت الصعب؛ حيث تحاصر قوات المحور، السواحل المصرية، ما أدى إلى ضعف استيراد المواد التموينية، عين صليب وزيراً للتموين، في وزارة حسن صبري عام 1940، بعد غياب ست سنوات، على مجلس الوزراء، وبتزكية من الملك فاروق، هذه المرة، في وزارة استمرت ما بين شهري يونيو ونوفمبر عام 1940.
وأوكل لصليب سامي مهمة تأسيس وزارة التموين، حيث لم تكن موجودة من قبل، وكان عليه أن يفصل بينها وبين وزارة التجارة والصناعة، وهي الوزارة التي كانت بدورها جزءا من وزارة المالية، وأصبحت وزارة مستقلة على ضوء أحداث الحرب العالمية الأولي، ونظراً لأنه رجل قانون، استطاع أن يدير هذه العملية بسلاسة في زمن الحرب.
ومع استقالة أحمد ماهر والسعديين من الوزارة، تولى صليب وزارة التجارة والصناعة، بجانب وزارة التموين، ويشير صليب إلى أن وزارة التجارة والصناعة، تشترك في مشاريع مع وزارة الحربية، تتعلق بمصايد الأسماك، موضحاً في مذكراته أن مصايد الأسماك في البحرين الأحمر والمتوسط، إضافة إلى البحيرات ونهر النيل، كانت تابعة لوزارة الحربية، ما يكذب ما قيل من أن كافة تلك المصائد السمكية، انتقلت إلى وزارة الحربية، قبل ثورة 23 يوليو 1952 أو أن عمل وزارة الدفاع، في هذه المجالات، يعد أمراً مستجداً في زمن النظام الجمهوري.
وعدل الرئيس سري وزارته، في يوليو 1941، بدخول حزب السعديين، وعاد صليب سامي وزيراً للخارجية، حتى فبراير 1942، في أصعب توقيت لمصر، في سنوات الحرب العالمية الثانية، والغارات الألمانية والإيطالية تضرب القاهرة والإسكندرية، بدعوي ضرب معسكرات الجيش البريطاني.
وغاب صليب عن المقعد الوزاري، طيلة سنوات وزارات الوفد والسعديين، ثم شكل حسين سري وزارة السبعين يوماً، ما بين نوفمبر 1949، ويناير 1950، وكان صليب وزير التجارة والصناعة الحديدي.
ويعود صليب سامي، وزيراً للتجارة والصناعة، ووزيراً للتموين، في وزارة أحمد نجيب الهلالي، ما بين مارس ويوليو 1952، في توقيت صعب، عشية ثورة 23 يوليو 1952، إضافة إلى الغليان الشعبي، الذي جرى عقب اندلاع انتفاضة 25 يناير 1952 الشعبية، على ضوء مذبحة الإسماعيلية، بحق أبطال الداخلية المصرية، وما تلاها من حريق القاهرة، ما أدي لانفلات قبضة الدولة على الأسواق، وتفشى السوق السوداء، وضعف حركة التصدير والاستيراد، واضمحلال العلاقات المصرية مع الدول الأجنبية.