الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

أوراق يوليو.. حكايات من دفاتر "الحركة المباركة"

صورة ارشيفيه
صورة ارشيفيه
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في صباح الأربعاء 23 يوليو 1952، ذهب الإذاعي فهمي عمر إلى عمله المُعتاد بهيئة الإذاعة المصرية ليجد قوات الجيش تحيط بالمبنى وتتواجد بأروقته، وعندما أكمل طريقه نحو الاستوديوهات وجد مجموعة من الضباط باستراحة المذيعين، لم يعرفهم «عمر»، لكنه ميّز من بينهم محمد أنور السادات الضابط المعروف، الذي كان حديث الشعب بأكمله بعد تورطه في العديد من القضايا السياسية أبرزها عملية اغتيال أمين باشا عثمان وزير المالية في حكومة الوفد، لم تكن بينهما معرفة شخصية، لكنه أدرك أن وجود شخصية مثل «السادات» في هذا الوقت المُبكر تعني شيئًا غير مألوف.
ويروى الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، فى كتابه «سقوط نظام.. لماذا كانت ثورة يوليو 1952 الأزمة؟» حكاية البيان الشهير للثورة، وقد كان وقتها أقرب أصدقاء جمال عبدالناصر من المدنيين، قال: «عند الساعة الرابعة إلا الثلث فجرًا، وصلت إلى مبنى رئاسة هيئة أركان الحرب، وكان قد وصل اللواء محمد نجيب، واستقبله عبدالحكيم عامر، ليبلغه بأن القاهرة تحت السيطرة، ليسأل نجيب عن موقف الفرقة الأولى مشاة العريش- وتعتبر قوة رئيسية فى ذلك الوقت- ليطمئنه عبدالحكيم، بأن تأييد الفرقة للمعركة مضمون وفى الطريق، ودخل هيكل فوجد جميع أعضاء مجلس قيادة الحركة».
وتابع: «وفى الساعة السادسة وخمس دقائق، دعا سعد توفيق إلى غرفة اجتماع القيادة لأقل من دقيقة، وعاد ومعه ورقة هي صورة من بيان سوف يعلن بعد قليل -الساعة السابعة- من إذاعة القاهرة، وهذا ما تم بالفعل لأن قوات الجيش سيطرت على استوديوهات الإذاعة، وكان البيان رقم 1 من قيادة حركة القوات المسلحة».
وروى الإذاعى الوحيد الذي شهد أحداث ذلك اليوم أن «السادات» قال له: «سنذيع بيانات عبر الإذاعة للشعب اليوم»، طلب منه «عمر» أن يقوم بإذاعة البيان باعتباره المذيع المتواجد بالمبنى ولكنه رفض وقال: «لأ.. الضباط هي اللي هتذيع البيان»؛ هكذا بدأت الإذاعة المصرية يومها ببث موسيقى مارش عسكرى فى تمام السادسة والنصف صباحًا، وذلك كان من المعتاد أن يحدث كل يوم ثُم تمت مخاطبة الشعب: «إليكم أولى النشرات الإخبارية»، وقام «السادات» بإذاعة بيان الثورة باسم اللواء أركان حرب محمد نجيب في أول خبر بالنشرة بالإذاعة بعد العبارة الشهيرة «هنا القاهرة».
بعد البيان، ووفقًا لرواية الإذاعي الكبير، تم قطع الإرسال عن الإذاعة من أبوزعبل عندما أمر الملك بانقطاعه، ثم عاد الإرسال في السابعة والنصف صباحًا، بعدما ذهبت قوة من الجيش إلى أبوزعبل واستطاعوا إعادة الإرسال مرة أخرى. بعد 70 عامًا من قيام ثورة يوليو المجيدة، ما زالت الأحاديث تتواتر بين الأجيال الشابة والصاعدة حول حقيقة ما حدث في ذلك اليوم، وما إذا كان ثورة أم انقلابًا، وكيف نشأت «الحركة المباركة» كما أطلق عليها في البداية، والأسباب التي جعلتها ثورة. نجد الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها في حكايات ومذكرات قادة الثورة ومعاصريها، والتي تعود «البوابة» للتجول بين صفحاتها طمعًا في المزيد من الحكايات.

انقلاب أم ثورة؟ محمد نجيب يوضح الحقيقة
كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هو أوّل من أطلق وصف «ثورة» على ما قام به الضباط الأحرار في ليلة 23 يوليو 1952، والتي أطلق القائمون عليها أنفسهم اسم «الحركة المباركة»، والتي جاءت وسط ظروف سياسية واجتماعية بالغة السوء، تجلّت خلال النكبة العربية عام 1948، والتى كانت إحدي نتائجها نشأة تنظيم سرى داخل الجيش تكّون من عدد قليل من الضباط ممن ذاقوا مرارة الهزيمة، وأطلقوا على أنفسهم «الضباط الأحرار»، دلالة على الانسلاخ من الخضوع للاحتلال.
عقود طويلة نشأت فيها أجيال مُتعددة تتأرجح بين وصف ما حدث فى 23 يوليو 1952 بين ما إذا كان انقلابًا عسكريًا على الملك الشرعى للبلاد، أم ثورة حقيقية جاءت لتُطيح بنظام فاسد ساعية إلى نشأة مجتمع جديد يقوم على العدل والمساواة. هذا الانقسام ذاته كان بين قادة الضباط الأحرار أنفسهم، وليس فقط رجل الشارع.
هذا التساؤل ردّ عليه الرئيس الراحل محمد نجيب في كتابه «كنت رئيسًا لمصر» بقوله: «من يؤيدنا ويتحمس لنا، يقول ثورة! وكأنه يكرمنا، ومن يعارضنا ويرفض ما فعلنا يقول انقلابًا، وكأنه يحط منا، إن تحركنا ليلة ٢٣ يوليو، والاستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعًا انقلابًا، وكان لفظ انقلاب هو اللفظ المستخدم فيما بيننا، ولم يكن اللفظ ليفزعنا لأنه كان يعبر عن أمر واقع».
وأضاف «نجيب»: «ثم عندما أردنا أن نخاطب الشعب، وأن نكسبه إلى صفوفنا، أو على الأقل نجعله لا يقف ضدنا، استخدمنا لفظ (الحركة)، وهو لفظ مهذب وناعم لكلمة انقلاب، وهو فى نفس الوقت لفظ مائع ومطاط، ليس له مثيل ولا معنى واضح فى قواميس المصطلحات السياسية، وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة (المباركة)، وبدأنا فى البيانات والخطب والتصريحات الصحفية نقول: (حركة الجيش المباركة)، وبدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع لتعبر عن فرحتها بالحركة، وبدأت برقيات التأييد تصل إلينا وإلى الصحف والإذاعة، فأحس البعض أن عنصر الجماهير الذي ينقص الانقلاب ليصبح ثورة قد توافر الآن، فبدأنا أحيانًا في استخدام تعبير (الثورة)، إلى جانب تعبيرى الانقلاب والحركة».

ماذا حدث فى 22 يوليو؟
كلمة السر «نصر».. قيادات «الضباط الأحرار» يجتمعون فى منزل خالد محيى الدين لوضع الخطة النهائية لحركتهم
فى التاسعة مساء 16  يونيو عام 1952، اجتمع مجلس إدارة نادى الضباط بالزمالك، والذى كان التنظيم قد اكتسح انتخاباته بنجاح، ووقف العقيد رشاد مهنا، مقرر الجلسة، وأعلن عدة اقتراحات وصلته، من بينها عدم تمثيل سلاح الحدود فى مجلس الإدارة، وتمت الموافقة على هذا الاقتراح ما عدا صوت واحد.
كان ذلك بمثابة تحدٍ واضح للملك فاروق ورجله الفريق محمد حيدر، الذي كان أحد الحضور فى الاجتماع، وحاول التخلص من مجلس الإدارة مُعتمدًا على تقديم الأعضاء استقالاتهم من خلال إيهام كل عضو على حدة بأن باقى الأعضاء قدموا استقالاتهم.
بعد شهر من ذلك الاجتماع؛ أصدر حيدر باشا، قراره بحل مجلس إدارة النادي، على أمل استرضاء الملك واستعادة مركزه ونفوذه.
كان هذا القرار ناقوس الخطر، الذى أشعر قيادة التنظيم باقتراب التضييق عليهم. هكذا عقدت اللجنة العُليا للتنظيم اجتماعات متتالية فى أيام 17 و18 و19 يوليو، للرد على قرار حل مجلس إدارة النادي، وتقرر حينها تاريخ 5 أغسطس موعدًا لقيام حركة الجيش؛ لكن جاءت خطوات رجال الملك مُتسارعة، ففى 20 يوليو قدم حسين سرى عامر استقالة وزارته، وجاءت الأنباء بتقلده منصب وزير الحربية، كبداية لتنفيذ سياسة انتقامية من هؤلاء، الذين تحدوا الملك والتنكيل بهم، إما بالطرد من الخدمة أو الاعتقال.
يقول المؤرخ العسكري الراحل جمال حماد: «هنا كان السؤال الدائر فى أذهان مجلس قيادة النادى، هل سيتمكنون من الغداء به قبل أن يتعشى هو بهم؟» كان الرد سريعًا بقدر الفعل نفسه، فقد اجتمعت اللجنة العليا للتنظيم فى مقر اجتماعهم المعتاد، بمنزل خالد محيى الدين، وتحددت ليلة 23 يوليو لتنفيذ خطة الحركة، بعد ساعات قليلة من حلف اليمين الدستورية لوزير الحربية.
وفى ظهر 22 يوليو؛ اجتمع ضباط من قيادات الحركة، فى منزل خالد محيى الدين، لاستعراض الخطة بصورة نهائية، وتقرر أن يظل الأمر طى الكتمان، حتى تمام الساعة 8 مساء، وكانت كلمة السر «نصر».
روى الرئيس الراحل محمد نجيب، فى مذكراته «كنت رئيسًا لمصر»: «من كان يعلم بخطة ليلة الثالث والعشرين من يوليو عشرة ضباط فقط، أما البقية فتم تحديد مهام معينة لهم، فعلى سبيل المثال، عبداللطيف البغدادي، كانت مهمته الاستيلاء على القاعدة الجوية بمطار ألماظة، وحسين الشافعى وخالد محيى الدين، كان عليهما الاستيلاء على سلاح الفرسان، وكان على عبدالمنعم أمين، الاستيلاء على سلاح المدفعية، وكان على صلاح سالم وجمال سالم، الاستيلاء على القوات فى العريش، وكان عليّ البقاء فى المنزل حتى الاستيلاء على مقر القيادة».
كانت الخطة مرتكزة على السيطرة على مبنى القيادة العسكرية بكوبرى القبة، ثم اعتقال بعض كبار ضباط الجيش لضمان عدم تحريك قوة عسكرية للتصدى لهم، ثم محاصرة قصر عابدين، وإغلاق مداخل القاهرة، والسيطرة على المطارات الثلاثة الرئيسية فى العاصمة «ألماظة، ومصر الجديدة، وغرب القاهرة».
فى تمام الثالثة فجر 23 يوليو كان الجزء الأول من الخطة تم تنفيذه، القيادة العسكرية تحت السيطرة، وقيادات الجيش فى سجن الكلية الحربية، وجمال عبدالناصر يبلغ اللواء محمد نجيب هاتفيًا بآخر التطورات. يقول نجيب: «هاتفنى من الإسكندرية وزير الداخلية حينها محمد المراغى، وأبلغنى وهو يتوسل لى كضابط وطنى إيقاف هذه الحركة، فالضباط إذا لم يتوقفوا سيتدخل الإنجليز، لأتلقى مكالمة مماثلة للأولى من وزير التجارة ثم رئيس الحكومة، إلى أن اتصل بى الصاغ جمال حماد، لإبلاغى بنجاح المرحلة الأولى من الخطة، تحركت إلى كوبرى القبة، واستقبلنى اليوزباشى إسماعيل فريد».


كيف وصل «الصاغ الأحمر» إلى مجلس القيادة؟
رغم الخلاف الشهير بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذي ابتعد على إثره إلى سويسرا لعدة سنوات، عاد خالد محيى الدين إلى مصر ليخوض الانتخابات المحلية، ويتولى عدة مناصب، وفي النهاية أسس حزب التجمع اليساري الشهير، بعدما أعاد الرئيس الراحل أنور السادات نظام التعددية الحزبية.
لم يكتب خالد محيي الدين، الرجل الذي وصف بـ«الصاغ الأحمر»- في إشارة إلى توجهاته اليسارية- والذي شارك في صنع تاريخ مصر في واحد من أهم أوقاتها، في كتابه الأشهر «والآن أتكلم» عن التاريخ. بل جاء كتابه أقرب إلى السيرة الذاتية لرجل تراكمت لديه خبرة أكثر من نصف قرن من العمل السياسي والدراية بكواليس السلطة في مرحلة فاصلة شهدتها مصر.
يقول عضو مجلس قيادة الثورة السابق في مقدمة كتابه: «عندما كانت أحداث مارس 1954 وما كان خلالها وبعدها، وعندما أثمر ذلك بالنسبة لي قرارًا بالنفي إلى خارج الوطن، هناك في المنفى البعيد أحسست بأن أول واجب لي هو أن أسجل الوقائع، وأن أحفظها وأحتفظ بها»؛ هكذا يحكي في كتابه أحداث ارتبطت بتنظيم الضباط الأحرار، وليلة 23 يوليو، وجلسات مجلس قيادة الثورة، وكل ما هو ضروري لتبقى حقائق تلك الحقبة في ذمة التاريخ.
ينقسم الكتاب، الذي جاء بعد أربعين عامًا من قيام الثورة، بصياغة الدكتور رفعت السعيد إلى 25 فصلًا، منها البدايات، «عبدالناصر» و«الإخوان»، الخلاف على الزعامة، أكثر من موعد للحركة، من لجنة القيادة إلى مجلس القيادة، مارس الوجه الآخر، المنفى؛ وتضمنت قدرًا كبيرًا من الأسرار، مثل سبب معارضة «عبدالناصر» التقيد ببرنامج التنظيم، وحقيقة العلاقة مع الولايات المتحدة، وعلاقة «عبدالناصر» وخالد محيى الدين بالإخوان وبالشيوعيين، وصلة «السادات» بالسفارة البريطانية.
تحدث الراحل في كتابه عن الطريقة التى قادته إلى تنظيم الضباط الأحرار وإلى معرفة جمال عبدالناصر، وكان ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأشهر، هو الذى اتصل بـ«خالد» وحدد له موعدًا مع جمال عبدالناصر حيث تشكلت الخلية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار، التى عقدت اجتماعها الأول فى منزل جمال عبدالناصر خلال عام 1949، وبدأت مسيرة هذا التنظيم نحو 23 يوليو؛ ويذكر أن مجموعة الضباط الأحرار لم تكن وحدها هى التى تعمل فى الجيش وإنما كانت هناك مجموعات أخرى ولم تكن بينهم فى البداية صلات، كانت هناك مجموعة جمال منصور ومجموعة الحرس الحديدى، برئاسة مصطفى كمال وصفى، ومجموعة أنور السادات التى كانت تضم إلى جوار بعض ضباط الجيش بعض العناصر المدنية.
تحدث خالد كذلك عن صلته هو وجمال عبدالناصر بجماعة الإخوان المسلمين، وكيف أُعدُ لهما لقاء مع حسن البنا ورغم اعترافه هو وجمال عبدالناصر بمقدرة حسن البنا على الإقناع إلا أنهما، خاصة جمال عبدالناصر، خرجا من اللقاء غير مرتاحين ويذكر «خالد» هنا كلمة لـ«عبدالناصر» قال له إنه يشعر بأن هذه الجماعة تريد أن تستغلهما وتستغل مجموعة الضباط التى كانت قد بدأت الارتباط بهما في حركتها وأن «عبدالناصر» رفض ذلك وابتعد هو و«خالد» عن حركة الإخوان.
ويروي مؤسس حزب التجمع وابن عم مؤسس جهاز المخابرات العامة فترة صعود التنظيم للسيطرة على الحكم في مصر، فيروي عن قرار حلّ نادى الضباط وما تبعه من تهديد باعتقال عدد من الضباط وبعد ذلك التفكير فى حملة الاغتيالات ثم العدول عن ذلك وفقا لرأى «عبدالناصر» ثم اتخاذ قرار بحل التنظيم يوم الثانى من أغسطس 1952 لإملاء شروطه على الملك وبعد ذلك -ولأسباب شرحها فى كتابه- عقدت لجنة القيادة اجتماعا بعد ظهر 22 يوليو 1952 وقررت فيه أن يبدأ التحرك ليلة 23 يوليو.
ودخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها. يروي خالد محيي الدين كذلك عن أزمة استقالة محمد نجيب من رئاسة التنظيم وإدراك «عبدالناصر» خطورة الموقف واقتراحه بأن يعود «نجيب» وأن يستقيل مجلس قيادة الثورة وأن تشكل حكومة مدنية برئاسة خالد محيى الدين وأن تعود الحياة النيابية بعد فترة ستة أشهر، ولكن ذلك لم يتم لأسباب كثيرة.

قرارات «ثورية».. إنهاء الملكية وحل «الإخوان» والأحزاب
وفقًا للوثائق، في صباح 26 يوليو 1952، وكان تحرك الجيش قد أتّم ثلاثة أيام، ظل الارتباك سائدًا في القصر الملكي، فلم يكن أحد يعلم كيف ومتى سينتهي الموقف، وكانت حركة الضباط التي يرأسها اللواء محمد نجيب قد سيطرت تمامًا على مجريات الأمور في مصر كلها. صباح ذلك اليوم أرسل اللواء نجيب خطابًا إلى الملك فاروق، يدعوه فيها للتنازل عن الحُكم رضوخًا لأمر الشعب، ومنحه مُهلة حتى الثانية عشرة ظهرًا من نفس اليوم.
طلب الملك فاروق من رئيس وزارته على ماهر باشا، كتابة وثيقة للتنازل عن العرش لكنه طلب أن تكون الصياغة محافظة على كرامته كملك، فطمأنه «ماهر» مؤكدًا ذلك، وعُهد إلى الدكتور عبدالرازق السنهوري، الفقيه الدستوري الشهير وأحد أعلام القانون -والذي صار رئيسًا لمجلس الدولة في عهد الرئيس جمال عبدالناصر- صياغتها، فجاء الأمر الملكي رقم 65 لسنة 1952.
كان هذا الأمر الملكيّ آخر ما صدر عن الملك فاروق في قصر رأس التين بالإسكندرية، الذي غادر في مساء نفس اليوم الساعة السادسة والثُلث على ظهر يخت المحروسة هو وعائلته، وكان في وداعه أعضاء حركة الضباط الأحرار وتم إطلاق 21 طلقة مدفعيّة كتحية أخيرة، يروي الرئيس الراحل محمد نجيب في مذكراته "جئت متأخرًا لوداع الملك بسبب ازدحام الطريق، وكانت المحروسة في عرض البحر، فأخذت لنشًا حربيًّا دار بنا دورة كاملة كما تقتضي التقاليد البحرية وصعدت للمحروسة وكان الملك ينتظرني، أديت له التحية فرد عليها، ثم سادت لحظة صمت بددتها قائلًا للملك: «لعلك تذكر أنني كنت الضابط الوحيد الذي قدم استقالته من الجيش عقب حادث 4 فبراير 1942 احتجاجًا»، فرد الملك: «نعم أذكر».
خلال السنوات التالية، بدأت الحركة -التي صارت مجلس قيادة الثورة- في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وربما كان أحد أهم القرارات التي اتخذها القائمون على الأمور، والتي ثبتت صحتها فيما بعد، هو قرار مجلس قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين، في 14 يناير 1954 والذي جاء فى نصه: «قرر مجلس قيادة الثورة حل جماعة الإخوان المسلمين وتعتبر جماعة الإخوان المسلمين حزبًا سياسيًا ويطبق عليها أمر مجلس قيادة الثورة بحل الأحزاب السياسية». وجاء في المذكرة التفسيرية التي صدرت مرفقة بالبيان أن بدأت الثورة فعلًا بتوحيد الصفوف إلى أن حلت الأحزاب ولم تحل الإخوان إبقاء عليهم وأملا فيهم وانتظارًا لجهودهم وجهادهم في معركة التحرير ولأنهم لم يتلوثوا بمطامع الحكم كما تلوثت الأحزاب السياسية الأخرى، ولأن لهم رسالة دينية تعين علي إصلاح الخلل وتهذيب النفوس، ولكن نفرًا من الصفوف الأولي في هيئة الاخوان أرادوا أن يسخروا هذه الهيئة لمنافع شخصية وأطماع ذاتية مستغلين سلطان الدين على النفوس وبراءة وحماسة الشبان المسلمين ولم يكونوا في هذا مخلصين لوطن أو لدين.
وأوضحت المذكرة المنشورة مع الأمر بالحل أنه أثبت تسلسل الحوادث أن هذا النفر من الطامعين استغلوا هيئة الإخوان والنظم التي تقوم عليها هذه الهيئة لإحداث انقلاب في نظام الحكم القائم تحت ستار الدين، وسردت مجموعة من الحوادث بين الثورة وهيئة الإخوان، منها ما تم بين البكباشي جمال عبدالناصر ومرشد الإخوان حول تأييد الجماعة للثورة، والحديث عن قوانين الإصلاح الزراعي، وإعادة التحقيق في مقتل حسن البنا، والعفو عن المعتقلين والمسجونين السياسيين وفي مقدمتهم الإخوان بمجرد تولي الرئيس نجيب رئاسة الوزارة. واختتمت المذكرة بـ«لن تسمح الثورة أن تتكرر في مصر مأساة باسم الدين ولن تسمح لأحد أن يتلاعب بمصائر هذا البلد بشهوات خاصة مهما كانت دعواها ولا أن يستغل الدين في خدمة الأغراض والشهوات».