كانت محنة جائحة كورونا باب رزق رَحِبّ لمهنة توصيل الطلبات "الدليفري"، إذ أظهرت الجائحة جزء من القيمة الحقيقية لهذه المهنة، بعدما لجأ إليها كثيرون ممن لم يستخدموها من قبل، وبصفة خاصة من حُجروا في منازلهم.
وتبقى الحقيقة أن مهنة الدليفري ليست وليدة الجائحة، لكن الجائحة فتحت أمامها وأمام شبابها آفاقًا جديدة، بل يُمكن القول إنها بالإضافة إلى حلولها السحرية في التوصيل، إلا أنها أسهمت في حل جزء –لا يُستهان به- من أزمة البطالة.
المساهمة في حل أزمة البطالة جاءت في ظل مخاض الميلاد الجديد لهذه المهنة، وبعيدًا عن الشركات التي تمثل القطاع الرسمي في هذا المجال، فهناك كثير من المشروعات الصغيرة والمتوسطة باختلاف نشاطاتها لجأت إلى تعيين طيارين بصفة خاصة لها، سواء كانت سوبر ماركت أو أسواق غذائية، وصولًا إلى المطاعم وخلافه، وكل وضع بروتوكولًا للتعامل سواء بالساعة أو بنسبة من قيمة الأوردر أو الطلب، وطالما ارتضى الطرفان فهنيئًا لهما، لكن هذا كان وضعًا مؤقتًا، فبعد الجائحة أو ربما انخفاض حدتها يجب العلم أن هذا القطاع المتواجد على أرض الواقع والقادم بقوة يحتاج أن يكون كله بمشتملاته في القطاع الرسمي.
دخول مفهوم هذه المهنة كليًا في القطاع الرسمي للدولة فرض عين على كل أطراف المنظومة، فلا يصح أن تتساوى الشركات التي تدفع الضرائب وتُأمِن على عملائها، بشركات أدارت مشاريعها من هذا النوع في الظلام.
أما المُشتري أو صاحب الأوردر، فتعامله مع شركة في القطاع الرسمي، يجعله لا يتعرض للنصب، ويتعامل مع كيان يمكن الرجوع إليه في حال تعرضه لمعاملة غير لطيفة من عامل الدليفري، كما أن التعامل مع طيار من شركة تعمل بشكل رسمي يحقق نوعًا من الأمان حينما تتعامل معه ويأتي إلى منزلك، فبالطبع شركته اختارته بعناية لأنه يُمثلها أمام العميل.
أما الطيار وهو من أهم عناصر المنظومة، فهو يتعرض للكثير من الضغوط بداية من قيادة الدراجات النارية وتعرضه للهيب الشمس في الصيف أو البرد القارس في الشتاء، وربما بعض التعاملات التي لا تليق من صاحب الأوردر إذا تأخر لأسباب خارجة عن إرادته كزحمة الطرق وغيره، وبالتالي يستحق تأمينات اجتماعية ومكافآت إضافية حال تجاوز عدد ساعات العمل وغيره من الأشياء التي ينظمها القانون.
هذه المهنة تحتاج إلى إعادة نظر شاملة، وتجديد الدماء الفكرية لها، خاصة أن المشاكل التي تعانيها وشكاوى أعضائها يجعلها مهنة جامدة، أو بطيئة في التطوير، في حين أن هذه المهنة عالميًا تطير بسرعة الطائرة -لا "الطيار"- في التطوير.
البداية في التطوير يجب أن تكون من العنصر البشري، فلولاه لن يكون هناك خدمة من الأساس، وأول ما يجب النظر إليه هي حياته، وعلى الشركات ألا تتهاون مع موظفيها أو المتعاملين معها كـ"فريلانسرز" من الطيارين في اتباع قواعد السلامة المرورية، وأن يكون لها نظام رقابي عليهم، على أن يكون التفتيش بشكل يومي على ارتداء خوذة الرأس اللازمة للقيادة، وعلى كل الشركات مراجعة الوقت المحدد لكل أوردر، خاصة إذا كان سيصادف الطيار في طريقه تحويلات مرورية، فالطيار في سبيل تنفيذ الأوردر في الوقت المُحدد قد يتجاوز السرعة المُحددة، مع ضرورة وجود قرار عاجل من كل شركة بالنظر في التسعيرات والقيمة إذا رُفع سعر البنزين أو تم تخفيضه.
من الهام جدًا أيضًا للشركات أن تجعل عقد العامل مرتبطًا بالتراخيص سواء الرخصة الشخصية أو رخصة المركبة، وإذا تجاوز الطيار حدًا معينًا من المخالفات لا تُجدد له، في سبيل توفير عنصر الأمان.
وفي هذا الإطار أيضًا يُمكن للشركات أن توجد طرقًا للحفاظ على طياريها، منها وليكن على سبيل المثال وليس الحصر، منع سير الطيارين في الأوقات المسموح فيها للنقل الثقيل بالسير على الدائري.
يمكن للشركات أيضًا أن تستوعب عددًا من ذوي الهمم الذين لديهم دراجات خاصة بهم أو سيارات على أن يُراعى لأصحاب الدراجات المجهزة لهم أن تكون الأوردرات في أماكن قريبة وأوزان هذه الأوردرات ليست بالثقيلة، ويمكن أن يكون هذا تحت بند المسيولية المجتمعية للشركة.
على الشركات أيضًا -ولدينا شركات كبيرة في هذا المجال- أن تنفتح على المهن الأخرى، فهناك أشياء غير مسموح ببيعها إلا من خلال متخصصين كالدواء، ولهذا يُمكن للشركات أن تتعاقد مع صيادلة يتولون تسليم الدواء للدليفري ويُراجعه ويرفض توصيل الأدوية التي لا تُعطى إلا تحت إشراف الطبيب، ويُمكن أن يُحل هذا الأمر ببروتوكول تعاون مع نقابة الصيادلة، باعتبارها المسئول عن الدواء.
كل هذا يستوجب أن يكون هناك كيانًا يمثل الطيارين، فليس كلهم يعملون لدى شركات، كما أن سياسات الشركات مختلفة، وبالتالي إنشاء مجمعة أو نقابة لعاملي الدليفري لم يعد رفاهية إنما ضرورة لا تحتمل التأخير.
وجود المجمعة أو النقابة يدخل هذا القطاع ككل في الاقتصاد الرسمي، ويكون القطاع كله تحت أعين الرقابة.
كل هذا يجب أن يُطرح وينفذ في أسرع وقت، لأن العالم كله قد تجاوزنا، فنحن نناقش بديهيات في حين أن العالم يناقش توصيل الطلبات بطائرات "درونز"، وهو ما تم تنفيذه بالفعل، كما أن الروبوت دخل على خط الخدمة في توصيل الطلبات، وأعلنت شركة ”ستارشيب تكنولوجيز“ أنها أكملت مؤخرا 2 مليون عملية توصيل عبر الروبوت الدليفري.
ورغم تعامل دول قليلة بالروبوت الدليفري، إلا أنه لا يشكل قلقًا في المستقبل القريب على العمالة في هذه المهنة –لكن هذا لا يعني تجاهل الأمر، بل يجب الاستعداد لذلك وفتح باب المناقشات حوله، ومن العيوب التي تجعل الروبوت لا يسبب قلقًا آنيًا أنه بطيء وغير مرن في التعامل مع الأوامر، ولا يزال في حاجة إلى كثير من التطوير.
بعض الشكاوى من عدم مرونة الروبوت في التعامل ربما تبعث برسالة أن الإنسان هو العماد الأول والأخير لهذه المهنة، كما أننا صعب أن ننتقل في الوقت القريب للتوصيل بالروبوت أو طائرات الدرونز بالنظر إلى حجم الأمية الموجود في مجتمعنا، وهذا يضعنا أمام مسئولية تطوير المهنة ذاتها وعلى رأسها الإنسان "الطيار"، لذلك على الشركات أن تعمل على تدريب طياريها على السرعة واللباقة والدقة وغيره من المهارات، وكلها مهارات يُمكن أن تُكتسب.