«شكرى»: شوارع القاهرة «تأكل أعمارنا».. و«هبة»: نعيش على «البقشيش».. ومواطنون: حل سريع فى الطوارئ
أستاذ طب نفسي: من يتعاملون مع عمال توصيل الطلبات بـ«تعالٍ» مضطربون
خبير قانوني: مطلوب دعم أصحاب الأعمال للوفاء بالتزاماتهم تجاه العمال
خبير اقتصادى: من الصعب وجود إحصائية رسمية بعدد عمال الدليفرى فى دول العالم الثالث
أصبحنا نعيش زمن «الأونلاين شوبينج»، وأصبح عامل توصيل الطلبات «الدليفرى» جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للملايين مع إيقاع الحياة السريع الذى تعيش فيه الأسرة فترات طويلة خارج المنزل.. فلا وقت للمطبخ أو لمة العيلة، وأصبح الدليفرى ضيفا يتم استدعاؤه يوميا، فالمهنة التى بدأ انتشارها فى العقدين الماضيين، باتت ملاذ وملجأ الكثير من الشباب والخريجين الباحثين عن فرصة عمل.
«تحذر هيئة الأرصاد الجوية المواطنين من الخروج إلى الشوارع غدًا».. عند قراءة هذه الجملة، يبدأ عمال الدليفرى فى الاستعداد وتجهيز أنفسهم، فغدا سيكون العمل شاقا، وستكون «الأوردرات» مضاعفة، فلا وقت للراحة أو الانزعاج- مثل بقية بنى البشر - من حرارة الشمس القاسية فى فصل الصيف، أو برودة الطقس القارسة فى شتاء يناير.
إنه أكل العيش المر، على دراجة نارية، يحيق الخطر بقائدها، الذى لا ينبغى أن يتبرم، فوصول الطلب فى وقت مناسب، أهم من أى شيء.
وهكذا بينما يقبع الكثيرون تحت البطاطين الثقيلة، فى ليالى الشتاء القارسة، تجد عمال «الدليفرى» أو الطيارين، كما يحلو للبعض أن يطلق عليهم، على دراجتهم البخارية ينقلون الطلبات دون أن يشتكوا من تجمد أطراف أصابعهم من شدة البرودة، كما يتجولون تحت شمس يوليو وأغسطس الحارقة ليطرقوا أبواب من اختبئوا فى الغرف المكيفة من حرارة الشمس.
يذهبون لعملهم كل يوم حاملين أرواحهم على أكتافهم، الدراجة البخارية هى سلاحهم الوحيد فى هذه المهنة، مُضطرين لرسم البسمة على وجوههم فى أشد الظروف قسوة، يدركون مدى أهمية «الوجه البشوش» فى مهنتهم التى تجعلهم يتعاملون يوميا مع أُناس مختلفين، ورغم كل المصاعب التى تواجههم، لابد أن يكونوا جاهزين للمهمة فى أى وقت.
إلى هنا هم راضون ومطمئنون وقادرون على مواجهة العوامل الطبيعية، ما يزعجهم حقا ليس كل ذلك، إنما ما يجدونه من معاملة غير لائقة من البعض.
مشاكل عمال توصيل الطلبات
«ياسين محمد» أحد عمال الدليفرى فى منطقة الهرم، قال لـ«البوابة» إن آخر فئة يهتم بها معظم أصحاب المحال هم عمال الدليفري؛ موضحا «إحنا فى آخر أولويات أصحاب المحلات، فرغم المرتبات الضعيفة لا يتم صرف وجبات لنا بعكس كل من يعمل بالمحل من شيفات وعمال آخرين».
أما عن معاملة الزبائن فقال إن ٦٠٪ منهم يُحمّلون عامل الدليفرى مسئولية أى أخطاء قد تحدث، فإذا وصل «الأوردر» ناقصا أو به أى خطأ، تجد أن العميل يلوم الدليفرى رغم أن الدليفرى لا علاقة له بالأمر، فمن أعد الطلب شخص آخر، كما أنه إذا حدث أى تأخير فى إعداد الطلب، يحمّل الزبون عامل الدليفرى ذلك التأخير.
وعن أغرب المواقف التى حدثت معه، قال «ياسين»: «ذهبت لأحد الزبائن فوجدت شقته فى الطابق السادس، فطلبت منه أن أصعد فى الأسانسير لكنه رفض بحجة أنه غير مشترك فى الأسانسير وقال لى نصا (يا إما تطلع على السلم أو تأخد الأوردر وترجع للمطعم) وبالطبع اضطررت للصعود على السلم، رغم وجود الأسانسير».
زميله عمرو شكرى، الذى يعمل فى منطقة المهندسين، قال إن معظم عمال الدليفرى أعمارهم قصيرة فى المهنة لعدم وجود استقرار مادى إو إدارى يساعدهم على الاستمرار فيها، مطالبا مجلس النواب بتشريع يجبر أصحاب المطاعم والمحال على التأمين على عمال وموظفى الدليفرى.
ويشير إلى أن الدليفرى من المهن الخطيرة، ومن الممكن أن تنتهى حياة العامل بها فى لحظة واحدة.
يقول«شكرى» إن شوارع القاهرة «تأكل أعمارهم كما تأكل عمر الموتور» بسبب ساعات العمل الطويلة، وبالتالى تحتاج الدراجة النارية إلى صيانة دورية، ما يجعلهم يتحملون أعباء مالية إضافية.
فتاة تخترق المجال
أثناء حديث «البوابة» مع عمال الدليفرى، علمت منهم أن هناك فتيات اخترقن المهنة، وبالفعل بحثنا حتى عثرنا على «هبة» التى تعمل فى توصيل الطلبات منذ عامين. تقول «هبة» إن الكثير من عمال توصيل الطلبات للمنازل «سواء من المطاعم أو الصيدليات» وكذلك العاملين فى محطات الوقود لا يكون لهم راتب ثابت وقد لا يكون لهم رواتب من الأساس، ويكون اعتمادهم الوحيد على «البقشيش».
تطالب «هبة» بتأمين صحى واجتماعى لكى تشعر بالأمان، مشيرة إلى أن بعض أصحاب المحال والصيدليات استغلوا حاجة عمال الدليفرى للعمل وتهربوا من استحقاقات المرتبات والتأمينات، لافتة إلى أنهم يضطرون لقبول الوظيفة معتمدين على «كرم الزبائن» ليكون لهم دخل.
ما تتعرض له «هبة» من سخرية وتنمر كان كفيلا بأن يجعلها ترفض الاستمرار، لكن لم تعدل عن قرارها من أجل «لقمة العيش»، تقول: «أحاول دائما أن أتجاهل ردود الفعل السلبية وأمضى فى طريقى»، مشيرة إلى أن هناك أيضا فى الشارع من يشجعونها على الاستمرار وهو ما يرفع من حالتها المعنوية والنفسية.
أنظمة الأجور
يقول محمد يوسف الحجارى، صاحب مطعم بالمريوطية: لا جدال فى أن مهنة الدليفرى تحفها المخاطر، وكثيرا ما يتعرض سائقو الدراجات لحوادث، لكن لا يوجد مطعم على الإطلاق لا يخصص راتبا معلوما للدليفرى، والشكاوى بهذا الشأن ليست دقيقة.
ويضيف أن هناك عدة أنظمة للأجور، وبالنسبة لمنطقة فيصل والهرم، فهناك نظامان، الأول يحصل فيه عامل الدليفرى على عشرة جنيهات فى الساعة، بالإضافة إلى نصف قيمة خدمات الدليفرى التى يوصلها، وهناك نظام بحصوله على ١٥ جنيها، فى الساعة.
ومع احتساب ما يحصل عليه من بقشيش، فالأمر لا بأس به، إذا عمل عشر ساعات يوميا.
أما بالنسبة للوجبات، فله وجبة مثل غيره من الموظفين، ليس منطقيا، أن يأكل زملاؤه وهو جائع.
ويتابع: «هناك مشاكل قد يتسبب فيها موظفو الدليفرى للمطعم، فهؤلاء الشباب من مستويات اجتماعية متعددة، منهم المهذبون، ومنهم المنفلتون أخلاقيا، وقد يحدث أن يغازل عامل دليفرى عميلة، وهنا تقع المشكلة على رأس صاحب المطعم، صحيح أن عليه أن يُحسن الاختيار، لكن من تحسبه موسى، قد يكون فرعونا».
مشكلة التأخير
فى جولتنا بالقاهرة، تحدثنا مع عدد من المواطنين، لاستطلاع آرائهم حول خدمات الدليفرى من المطاعم أو الصيدليات التى يتعاملون معها.. معظم من تحدثنا معهم أثنى على عمال توصيل الطلبات، وتفانيهم فى العمل فى أوقات صعبة للغاية، ورغم ذلك كان من بينهم من اشكتى من بعض الأمور.
وكان من بين أبرز شكواهم هو تأخر «الأوردر» فى كثير من الأحيان، وتجاهل عامل الدليفرى الرد على الهاتف، أحدهم قال إن بعض عمال الدليفرى تسيطر عليه الجملة الشهيرة «على أد فلوسهم».
حماية بالقانون
عمال الدليفرى يخضعون فى قانون التأمينات رقم ١٤٨ لسنة ٢٠١٩ لفئة «عاملين لدى الغير»، والنسبة التى يجب دفعها فى القانون لهؤلاء هى ١١٪ لمن لا يقل أجره عن ١٤٠٠ جنيه، أما صاحب العمل فيدفع ١٨.٧٥٪، بإجمالى «٢٩.٧٥٪» من أجر الاشتراك للمؤمن عليه.
ويتم التأمين عليهم وفقًا لقانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات ويستفيدون بالمزايا التأمينية والتى تتمثل فى: معاش شهرى حال بلوغ سن الشيخوخة، ومعاش شهرى للمستحقين عنه حال وفاته، وتعويض من دفعة واحدة فى حالة عدم توافر شروط استحقاق المعاش، وفى حالات انتهاء العمل للوفاة أو لثبوت العجز الكامل، وله مدة اشتراك ثلاثة أشهر متصلة، أو ستة منفصلة، فيستفيد بقيمة معاش شهرى لا يقل عن ٦٥٪ من الحد الأدنى لأجر الاشتراك فى تاريخ واقعة الوفاة أو العجز.
وحدد القانون تأمين إصابات العمل بصرف معاش أو تعويض، حال إصابة المؤمن عليه أثناء العمل أو بأمراض مهنية، وتأمين المرض ويشمل العلاج والرعاية الطبية وتعويض الأجر ومصاريف الانتقال حال انقطاع الأجر نتيجة المرض.
ولم ينس القانون تأمين البطالة حال إنهاء خدمة العامل تعسفيا، بالإضافة إلى المزايا التأمينية الأخرى، مثل مكافأة نهاية الخدمة والتعويض الإضافى فى حالة انتهاء خدمة المؤمن عليه للوفاة أو العجز، ومنح الوفاة ونفقات الجنازة عند وفاة صاحب المعاش.
حل قانوني
الخبير القانونى أيمن محفوظ، قال لـ«البوابة»، إن القانون فرض على صاحب العمل تحرير عقود عمل لجميع العمال، بها كل الضمانات التى يتمتع بها العامل، ومنها التثبيت أو التعيين خلال ستة أشهر وتوفير الرعاية الطبية والنفسية للعامل، مقترحا أن تقدم الدولة الدعم المناسب لأصحاب الأعمال وشركات القطاع الخاص بشكل ضرورى حتى تستطيع الوفاء بمتطلباتها لدى العمال، وتمنحهم حقوقهم القانونية.
ومع عدم وجود دعم لشركات القطاع الخاص يضطر رب العمل لتشغيل عامل الدليفرى دون التأمين عليه، رغم أن المادة (١٦٨) من قانون التأمينات والمعاشات الجديد تنص على أنه يعاقب بغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين المسئول الفعلى عن الإدارة لدى صاحب العمل أو الموظف المختص فى الجهات الحكومية أو القطاع العام أو قطاع الأعمال العام الذى لم يقم بالاشتراك فى الهيئة عن أى من عمالة الخاضعين لأحكام هذا القانون أو لم يقم بالاشتراك عنهم بالمدد أو الأجور الحقيقية.
وتابع: ويعاقب بذات العقوبة المسئول الفعلى عن الإدارة لدى صاحب العمل أو الموظف المختص فى الجهات الحكومية أو القطاع العام أو قطاع الأعمال العام الذى يحمل المؤمن عليهم أى نصيب من نفقات التأمين لم ينص عليها فى هذا القانون، وتحكم المحكمة من تلقاء نفسها بإلزامه بأن يرد للمؤمن عليهم قيمة ما تحملوه من نفقات التأمين، وتضاعف العقوبة فى حالة العود.
وذكر أن عمال الدليفرى يتعرضون يوميا لخطورة بالغة بسبب طبيعة عملهم، موضحا أنهم عادة ما يعملون فى ظروف مناخية صعبة، وظروف عمل غير ملائمة، لافتا إلى أن بعض أصحاب المحال يستغلون حاجة عمال توصيل الطلبات إلى العمل ويجعلونهم يعملون دون أجر ثابت، معتمدين على «البقشيش»، كما أن أصحاب المحال يجبرونهم على العمل لساعات طويلة، رغم أنهم يعملون دون تحرير عقود عمل لهم، ويلزمونهم أيضا بأن يعملوا بمركبتهم الخاصة.
وأوضح «محفوظ» أن كل هذا يخالف بالطبع قانون العمل وقانون التأمينات الاجتماعية، مشيرا إلى أن عامل الدليفرى يعتبر إعلانا متنقلا لصاحب المحل، يعلن من خلاله عن سلعته وعن اسمه التجارى.
وأوضح أن هناك مشاكل أخرى تواجه عمال الدليفرى مثل الفصل التعسفى أو إجبار العامل على التوقيع على سندات دين أو استقالة مسبقة قبل استلامه العمل كحيلة من أصحاب المنشآت للتحايل على القانون، مشيرا إلى أنه رغم أن تلك الأمور تمثل جرائم إلا أن العامل يُفضل عدم الدخول فى نزاعات مع أصحاب المحال.
وقال «محفوظ» إن القانون منح العامل حق اللجوء لمكتب العمل لتحرير شكوى، وإذا لم يحل الأمر يحال النزاع إلى المحكمة العمالية بلا رسم، مشيرا إلى أن حال العمال فى القطاع الخاص يحتاج بالطبع لخروج قانون العمل الجديد للنور وللتطبيق الفعلى.
وعن مطالبات عمال الدليفرى بإنشاء نقابة خاصة بهم أو حتى رابطة تتحدث باسمهم وتطالب بحقوقهم أمام أصحاب الأعمال، قال الخبير القانونى إنه حان الوقت بالفعل لأن يتحقق ذلك الحلم لأن كل مقومات النقابة أو على الأقل رابطة منطبقة عليهم أسوة بالمتجولين وغيرهم ممن لهم حائط صد ضد تلك السُخرة المستحدثة لعمال الدليفرى.
المعاملة تفرق
الدكتور جمال فرويز، أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة، قال فى تصريحات لـ«البوابة»، إن من يتعاملون مع عمال خدمات التوصيل بشكل سيئ فهم مصابون بـ«اضطرابات فى الشخصية»، مشيرا إلى أن هناك أنماطا عديدة للشخصية، فمثلا أصحاب الشخصية «الانفجارية» يتعاملون مع البعض على أنهم «أقل منهم» فينفجرون فيهم غضبا، موضحا أن هؤلاء إذا وجدوا من «يقف أمامهم» ويعترض على طريقة تعاملهم معهم يتراجعون عن التعامل بتلك الطريقة، أما إذا وجدوا أمامهم شخصا «ضعيفا» فإنهم يتمادون.
ووجه «فرويز» نصيحة إلى عمال الدليفرى قائلا: «عليهم أن يعلموا أنهم لن يجدوا كل من يتعاملون معهم أسوياء، ٨٠٪ من الزبائن سيجدونهم يتعاملون معهم معاملة طبيعية، ولكن الـ٢٠٪ الباقين سيجدونهم يتعاملون بشكل غريب، فعليهم أن يكونوا مستعدين للتعامل مع الشخصيات المختلفة».
حجم الاستثمارات
أدى انتشار فيروس كورونا فى العالم منذ أكثر من عامين، إلى طفرة كبيرة فى حجم الاستثمارات الموجهة إلى خدمات توصيل الطلبات، لم تشهدها هذه المهنة منذ بداية انتشارها.
ورغم أن معظم دول العالم تصدر بشكل دورى إحصاءات رسمية بعدد العاملين فى هذه المهنة كغيرها من المهن، إلا أنه لم تصدر أى جهة رسمية فى مصر إحصائية عن عدد العمالة فى هذه المهنة، أو حتى حجم الاستثمارات الموجهة لها.
الخبير الاقتصادى الدكتور رشاد عبده، قال لـ«البوابة»، إنه من الصعب فى دول العالم النامى بشكل عام وجود إحصائية بعدد عمال الدليفرى وحجم «البيزنس» فى هذه الخدمة، مرجعا ذلك إلى أن أكثر من ٨٠٪ من العاملين بهذه المهنة غير مثبتين وغير مؤمن عليهم بهذه الدول.
إتيكيت التعامل
الدكتورة هالة العزب، خبيرة الإتيكيت والعلاقات الإنسانية، قدمت بعض النصائح لحل الأزمات المتتالية بين الزبائن وعمال الدليفرى، مطالبة بضرورة التحلى بالصبر أثناء شرح العنوان بشكل تفصيلى، موضحة أنه من الممكن أن يكون عامل الدليفرى لا يعلم العنوان ولا يعلم كيف يأتى إليك.
كما حذرت خبيرة الإتيكيت والعلاقات الإنسانية عامل الدليفرى من التعامل مع أطفال المنزل، أو الدخول إلى المنزل بدون دعوته، مشيرة إلى أنه فى حالة احتياج العمل لبعض القياسات وتجهيز قيمة الطلب أو أى أمر آخر، فيمكنه دعوة عامل الدليفرى داخل المنزل، وتقديم المياه له.
وشددت الدكتورة هالة العزب على ضرورة عدم غلق الباب إلا بعد نزول عامل الدليفرى على الدرج أو غلق باب الأسانسير.