آن الأوان أن يدرك العرب قبل غيرهم أن منطقتهم ليست فراغًا تملؤه إحدى القوى الدولية، وأن عناصر قوتهم الشاملة (الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية) وحدها القادرة على ملء الفراغ المزعوم.
عكست كلمة الرئيس الأمريكى جو بايدن خلال قمة جدة للأمن والطاقة والتنمية وعى الإدارة الديمقراطية فى واشنطن أنها خسرت الكثير من رصيد علاقتها الاستراتيجية مع دول الشرق الأوسط بسبب سياساتها المتعجرفة والانتهازية التى تجاهلت مصالح دول المنطقة؛ حيث قال الرئيس بايدن أن بلاده حريصة على بناء جسور الثقة مع حلفائها القدماء؛ وكأن الولايات المتحدة تبدأ من نقطة الصفر رغم ذلك التاريخ الطويل من التحالف الاستراتيجى.
ويعود بايدن ليؤكد ذات المعنى بقوله: "سنسعى لتعزيز تواجدنا فى المنطقة حتى لا نترك فراغًا تملؤه الصين وروسيا "، وهى العبارة التى جعلت رئيس دولة عظمى وسياسى مخضرم يبدو كسياسى مبتدئ ساذج، فليس بهذه الطريقة المباشرة تورد السياسة.
لأسباب ارتبطت بطبيعة الأنظمة السياسية العربية وطريقة تفكيرها وتقديرها لموقعها فى الخارطة الدولية ربما صح حديث بايدن عن الفراغ الاستراتيجى فى منطقة الشرق الأوسط قبل 50 عامًا؛ ولا مجال هنا لسرد تفاصيل ذلك الواقع، غير أن التحليل النهائى للواقع الجديد الذى باتت عليه المنطقة يكشف الفارق بين 2022 وما قبل يونيو 2013 عندما ظهر نظام سياسى جديد فى مصر مختلف فى طريقة إدارته وتقديره للحسابات السياسية الدولية والإقليمية المعقدة ليس فقط عن النظام الإخوانى الذى سبقه مباشرة وإنما بالنسبة لنظامى الرئيسين أنور السادات صاحب المقولة الشهيرة (99% من أوراق اللعبة فى إيد أمريكا) والرئيس حسنى مبارك.
هذا الاختلاف النوعى فى النظام السياسى المصرى كانت له انعكاساته وتداعياته على باق الأنظمة السياسية العربية لاسيما فى منطقة الخليج.
الشاهد على أننا بتنا بصدد شرق أوسط مختلف فى وعيه وتفاعلاته، هذا الموقف العربى الموحد الذى فرض ولأول مرة على واشنطن الإنصات لكلمة العرب وإدراك أنه لا علاقة استراتيجية دون اعتبار لمبدأ المصالح المتبادلة بشكل متوازن، وأنه قد مضى ذلك الزمن الذى ترضخ فيه الدول العربية لرغبات ومصالح ماما أمريكا ولو على حساب مصالحها.
فقد أسقطت دول الخليج ومعها مصر والعراق والأردن وللأبد مقترح نيتو شرق أوسطى يجمع العرب مع إسرائيل تحت قيادة الولايات المتحدة لمواجهة إيران؛ وبادرت مصر والعراق والإمارات والأردن إلى إعلان رفض أى تحالف عسكرى ضد طهران وأكدت مصر أن النهج السياسى والسبل الدبلوماسية كفيلة بحل كل المشكلات وذهبت أبو ظبى إلى التأكيد أنها فى طريقها لتعيين سفير فى طهران بينما شددت الرياض على مطالبة النظام الإيرانى بانتهاج سياسة حسن الجوار وعدم التدخل فى شئون جيرانها العرب مرحبة باستمرار الحوار معه.
وكما هو معلوم عاد بايدن بخفى حنين بشأن زيادة إنتاج البترول بإعلان المملكة السعودية أن السياسات النفطية تتخذ فى إطار منظمة أوبك وتحالف أوبك+ الذى يضم روسيا وأنها بالوصول إلى 13 مليون برميل يوميًا خلال أربعة أعوام لن تستطيع فعل المزيد.
وبنفس الخفين عاد بشأن التطبيع مع إسرائيل بتأكيد الرياض على أن السماح بمرور الطيران المدنى والتجارى عبر أجوائها يأتى فى إطار اتفاقية شيكاجو للطيران المدنى دون أن تشر صراحة لتل أبيب ليؤكد المسئولون السعوديون بعد ذلك أن هذا السماح لا يعنى اعترافًا بالكيان الصهيونى أو مزيدًا من الخطوات نحو التطبيع معه.
عناصر القوة الشاملة لدول المنطقة برزت خلال فعليات قمة جدة والتى بدأت باستقبال أمير مكة للرئيس الأمريكى وانتهت ببيان القمة، وقد آن الأوان ليتعامل العرب مع أنفسهم كقوة مستقلة قادرة على بناء علاقات صحية مع الأطراف الرئيسة فى المنطقة قائمة على المصالح المتوازنة والواقعية وهى إيران وتركيا وإسرائيل على ألا تخلو هذه العلاقات من عنصر الردع الذى يمنع تلك الأطراف من تجاوز حدودها الجغرافية بأطماعها الجيوسياسية فى المنطقة.
لا ينبغى السماح بهذا الحديث الأمريكى عن حاجة المنطقة لمن يحميها من تحرشات إيران، أو مشاركتها فى حماية الممرات البحرية المهمة لحركة التجارة العالمية (باب المندب وهرمز).
لم يعد مقبولًا الحديث عن فراغ استراتيجى فى انتظار بارجات أمريكية أو صينية ليملؤه وظنى أن الاقتراح المصرى الذى طرحه الرئيس عبد الفتاح السيىسى مع بداية توليه شئون الحكم بشأن إنشاء قوة عربية مشتركة قد بات يملك مقومات تنفيذه على أرض الواقع خاصة بعد المصالحات العربية ووجود توافق حول الحد الأدنى لمحددات الأمن القومى العربى.
ما تملكه مصر والمملكة السعودية والإمارات وباقى دول المنطقة من إمكانات عسكرية يمكن من إنشاء هذه القوة بعناصرها البرية والجوية والبحرية ليس فقط لمكافحة الإرهاب والمليشيات المسلحة وإنما أيضًا لملء هذا الفراغ العسكرى الاستراتيجى لتأمين حرية الملاحة البحرية اعتمادًا على القوة الذاتية والمستقلة.
تصريحات جاك سلوفان مستشار الأمن القومى الأمريكى قبيل قمة جدة كانت حذرة بشأن ملف الطاقة ما يعنى أن الهدف الرئيس من زيارة جو بايدن بالنسبة للدولة العميقة التى تحكم فى واشنطن لم يكن زيادة المنتج من براميل البترول أو التطبيع السعودى مع إسرائيل، وإنما عودة الولايات المتحدة للمنطقة ولو بقدم واحدة تمهيدًا لاستعادة ما كانت عليه العلاقة الاستراتيجية مع الدول العربية قبل عقد من الزمان، وفى رأيى أن العمل على تعزيز عناصر القوة العربية الشاملة وتأسيس قوة عسكرية مشتركة سيقطع على الولايات المتحدة أحلام العودة إلى علاقة التبعية، وسينقل الدول العربية من مربع المساومة مع القوى الدولية العظمى (أمريكا، الصين، روسيا) إلى مربع الندية حينها ستأتى كل هذه القوى للتعاون وتحقيق المصالح المشتركة وليس لملء الفراغات الاستراتيجية ومن ثم فرض الإرادة السياسية لأننا وببساطة نملك عناصر قوتنا المستقلة التى تكفل لنا الدفاع عن أمننا القومى دون الحاجة لمساعدة الآخرين كما أنها ستضمن التزام القوى الإقليمية بسياسة حسن الجوار.
أغلب الظن أن الصين وروسيا قد يرحبان بتوجه من هذا النوع فيما سيسبب إزعاجًا لواشنطن دون أن يكون لديها خيارات كافية لتقويضه وتحجيمه.
آراء حرة
قمة جدة.. نحو قوة عربية مشتركة لملء الفراغ الإستراتيجي
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق