ثورة يوليو.. الحائرة فى عيون الأقباط
سبعون عامًا على ذكرى ثورة يوليو 1952، حجر أساس النظام الجمهورى المصرى والخروج من عباءة الملكية التى عرفتها مصر عبر تاريخها العريض منذ الفراعنة وحتى الملك فاروق الأول الحاكم الذي حمل رقم 459 والأخير؛ فى عّداد المتعاقبين من مصر القديمة وحتى الدولة الحديثة.
كانت ثورة يوليو سلاح ذو حدين الأول رحمة البسطاء والكادحين والطبقات الدنيا والآخر يراها الأثرياء وأصحاب الممتلكات نحر الرؤوس الكبار من أصحاب الأملاك والطبقات العليا، لم يخرج الأقباط عن دائرة عموم المصريين عاشوا أوقاتا ذهبية وأخرى عصيبة عبر الحقب المتعاقبة للحكام.
بدءا من هتاف وتوحد ثورة 1919 على شعار «عاشت مصر حرة مستقلة.. عاش الهلال مع الصليب»، وكانوا فاعلين كجزء أصيل فى المجتمع المصرى الذى لم يعرف الفرقة والتمزيق رغم وطأة الأحتلال، عبرت مصر المحن فى وحدتها الواحدة لم تشهد أحداثا طائفية أو تمييز مشين طيلة سنوات، تمثل الأقباط حقبة الليبرالية أو ما يسمونه العصر الذهبى فى الفترة «1805-1952».
أزمات افتعلها الإخوان
تخلل الفترة أزمات وإشكالات حاول افتعالها تنظيم الإخوان المسلمين تنامت خلال عامى «1936-1937»، وخاصة فى ضوء الحركات التبشيرية وغيرها ومحاولة من الجماعة لخلق احتقان بين النسيج الواحد، وتلاها اشتباكات الوفديين مع الإخوان في بورسعيد 1947، والغريب أن يكون أول مرة يهاجم الأقباط من تحت مظلة الأزهر الشريف فى عهد الشيخ المراغى 1938 ووصفه للأقباط بالثعالب، وتلك الأفعال جميعها استهدفت إبعاد الأقباط عن الحركة الوطنية المصرية ولم تنجح.
حتى بدأ حراك تنظيم الضباط الأحرار، كان خاليًا من الأقباط تمامًا فيما عدا النقيب شكرى فهمى عضو قاعدى بالضباط الأحرار وشغل مصلحة السجون لفترة ونقل للعمل بالقرب من عبدالناصر- وفق ما كشفه كتاب «الأقباط بين الحرمان الوطنى والكنسى»، أما بشأن ما يتداول عن اللواء أنور عبدالله فإنه حقيقة الأمر كان وفديا وكان قريبا من خالد محى الدين عضو مجلس قيادة الثورة ولكنه ليس له دور من قريب أو بعيد بالتنظيم.
ولم يظهر فى الصدارة أى من المسئولين قبطيًا، ومن هنا تزايدت الريبة ودب الخوف فى قلوب الأقباط على أملاكهم وأموالهم من مصير غير معلوم، وجاءت الثورة بالأثر والتأثير على الأقباط، وبدأت ترسم ملامح جديدة على الواقع المصرى مفروضة على الأقباط كجزء أصيل منه، وكانت يوليو طوق رحمة للطبقة الدنيا من الأقباط وغيرهم، وسلاح قاس على أصحاب المال والأملاك، تبدلت الأحوال ونجحت الثورة الإشتراكية من منظور صانعيها.
ضربات متتالية كان لها وقع الصدمة علي رأس أصحاب الأملاك ومن يسمون بالإقطاعيين.. قرار الإصلاح الزراعى وحل الأحزاب السياسية وتأميم الممتلكات والشركات وغيرها كان ضربة قاسمة لكل هؤلاء؛ وطاقة رحمة للبسطاء من الأقباط والمسلمين فإنها جعلت من الأجير مالكا، راحت أصوات البعض تنتقد والأخرى تدعم وتحفز ولعل أبرزها كتابات القمص سرجيوس سرجيوس خطيب ثورة 19 الذى بارك ثورة يوليو خطواتها ومساراتها.
تزايد مخاوف الأقباط ادى الى تراجع تواجدهم على ساحة العمل العام رغمًا عنهم، خاصة فى ضوء هيمنة حركة الضباط الأحرار الذى كان تشكيلها فى بدء الأمر منتمين فكريًا إلى جماعة الإخوان أو جماعة «مصر الفتاة» المعروفين بالتشدد الدينى، الأمر الذى جعل الأقباط محرومين من المناصب العليا والمواقع المسئولة لسنوات طويلة بعدما كان من بينهم رئيسين للوزراء وسبعة للخارجية وستة للأشغال والمواصلات ومثلهم للمالية وسبعة للصناعة والتجارة واثنين للتموين ومثلهم للصحة ووصل إلى أن تولى في السابق وزيرًا للحربية مسيحي بحسب كتاب «الأقباط بين الحرمان الوطنى والكنسى» للباحث والكاتب سليمان شفيق.
ويروى الكاتب أيضًا بالأرقام والنسب ممتلكات الأقباط قبل التأميم تقدر 75% من قطاع النقل والمواصلات الداخلية، 44% لقطاع الصناعة، 51% بقطاع البنوك، 34% من الأراضى الزراعية، تقدر جميعها بـ15% من إجمالى الثروة القومية للدولة المصرية وفق التقارير الاقتصادية التي أشار إليها الكتاب.
تّشكل المشهد الجديد للدولة فى ظل ثورة يوليو 52 دعا الأقباط للخروج عن الصمت وطالبوا بالمساواة والعدالة على صفحات جريدة المصرى وصحيفة الفداء في مقالات عديدة تعبر عن آلام هؤلاء من الحرمان الكامل، عدم إسناد المسئوليات والمناصب في الكليات والمعاهد والكليات العسكرية أو تولى رئاسة أى من قطاع الأعمال العام والتى يتجاوز عددها 3600 والشركات المؤممة سوى 10 أشخاص بحد أقصى، وعدم قبول المسيحيين فى جامعة الأزهر، وغيرها.
هجرة الأقباط
كانت جميعها حافزًا للرحيل.. لجأ الأقباط إلى الهجرة خارج البلاد خاصة الطبقة المُضارة من قرارات ثورة يوليو وكانت قبلتهم الدول الأجنبية أمريكا وكندا وأستراليا وغيرها، نتاج الثورة كان ثقيل على صدور الأقباط لما رأوه وعاشوا من تمييز بدأ من وضع خانة الديانة فى هوية المصرى وإضرام النار في كنيسة بالسويس تكاد تكون المرة الأولى وعلى إثرها قام الأقباط بمظاهرات حاشدة وضخمة في الكاتدرائية المرقسية بكلوت بك - آنذاك - وأيضًا محاولة النيل من مكرم عبيد الوزير القبطي وخروج المتطرفين ضده بهتافات يسقط الوزير القبطي، ورغم ذلك ظل عدد كبير داخل الدولة مترقب عن بعد ما يحدث ويجرى، حتى جاءت هزيمة 67 وشارك الأقباط كونهم جزءًا من النسيج الوطنى على أمل أن يحقق أحلامهم ولكن لم تأت الرياح بما يشتهى هؤلاء.
ورغم كل الأحداث كان «عبدالناصر» صارمًا مع الإخوان فى قراراته حجم من طاغوت الجماعة التي حاولت فرض وصايتها على اتجاهات الدولة نفسها، وكانت حقبة زمنية مثالا للصداقة والوئام بين الرئيس والبطريرك كيرلس السادس آنذاك كادت توصف بالصداقة القوية سجلها التاريخ، رحل كلاهما، تاركين ميراثًا ضخمًا من المواقف الوطنية الأصيلة، وكذا أثر فراغ غيابهم على الجماهير لم يكن سهلًا.
مؤشرات الانهيار
خرج الأقباط عن دائرة الحياة العامة تباعًا سياسيًا وعمليًا حيث أصبحت دائرة تجميل الصورة من خلال التعيين فى المجالس النيابية لأن المناخ لم يعد مستعدًا ترشح الأقباط على مقاعد البرلمان أو الشيوخ، وبالأرقام على مدار ثمان برلمانات من 1964 - 1995 لم تفرز سوى 22 نائبا بالانتخاب ويعين فيهم 47 آخرين بنسبة إجمالية لا تصل 1%، وظلت الأحداث تتوالى والمؤشرات فى هبوط مما فتح أبواب الفتن وروح الفرقة والشتات، وصل الحال لمطالبة صريحة من قادة الكنائس بتحقيق مبدأ الكوتة في البرلمان بعدما خلى برلمان 95 من أى نائب قبطى على الإطلاق.
استمر الحال فى هبوط وانخفاض، حتى جاء حراك يناير 2011 تلاحم المصريين في الهزيع الأول من الثورة وما تلاها 2013 ودفع مع أشقاء الوطن ضريبة الإصلاح، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء على يّد قيادة رشيدة يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وكانت ملامح الجمهورية الجديدة بصورة واضحة تبدل فيها حال الأقباط تمامًا وبدأت صفحة جديدة داخل الدولة يتولى الأقباط مناصب القيادة والوزارات المختلفة ويشغل المواقع المرموقة وفق الكفاءة وتمثيل نيابي كبير خلال البرلمانات الجديدة.
من جهته قال المفكر والكاتب كمال زاخر، إنه مازالت ثورة يوليو ٥٢ لم تكشف عن أغلب أسرارها، ولعل أهمها السبب أو الأسباب الحقيقية لحدوثها، حتى صارت محل خلاف وتباين بين مؤيديها ومعارضيها، رغم مرور كل هذا الزمان.
وأضاف، أنه قد شهدت مصر تنامى حركة الهجرة إلى الغرب خاصة من الأقباط امتداد زمن حكم ضباط يوليو، «ناصر» و«السادات»، ربما بسبب تتالى قرارات المصادرة والتأميم وقبلهما قرارات الإصلاح الزراعى، وكان حظ كبار الملاّك الأقباط وافرًا.
وتابع «زاخر» لـ«البوابة»: «كان قرار تحويل جامعة الأزهر من ثلة من الكليات الدينية إلى جامعة متكاملة تضم كليات علمية أُسوة ببقية الجامعات وسلسلة المعاهد الأزهرية الموازية فى التعليم ما قبل الجامعى، وكلاهما يقتص القبول فيها على الطلبة المسلمين آثار سلبية في اتجاهين؛ الأول إحداث أول شرخ في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، بسبب تباين المكون الذهنى عند كليهما، والثانى التأسيس لتكوين الجماعات المتشددة وطيف منها تبنى تيارات الإرهاب الذى استهدف الأقباط سواء لكونهم فى ظن تلك التيارات العائق الأكبر أمام تحقيق حلم عودة دولة الخلافة أو كحاملي رسائل مفخخة للنظم الحاكمة فى الصراع القائم بينها وبين تلك التيارات، مشيرًا إلى أنه يحسب لثورة يوليو انحيازها للطبقات الكادحة «برؤيتها» وكان الأقباط ضمن المستفيدين، والتوسع في توفير التعليم والحاجات الأساسية.
ومن جانبه، يرى هانى الجزيري، عضو المكتب السياسي بالحزب العربى الناصرى، إن ثورة يوليو المجيدة خلصتنا من حكم عائلة محمد على الذي استمر نحو قرن ونصف، وأيضًا تخلصنا من الاحتلال الانجليزى الذى تجاوز سبعين عامًا؛ ووضع مجلس قيادة الثورة ستة أهداف الثورة أولها القضاء على الاستعمار والإقطاع، والاحتكار وسيطرة رأس المال، وإقامة عدالة اجتماعية، وجيش وطني قوى، وحياة ديمقراطية سليمة ونجحت في ذلك رغم قلة الإمكانات وكثرة المعوقات.
وأضاف «الجزيرى» لـ«البوابة» أن مصر بقيادة «عبدالناصر» حققت طفرات لتوحيد الشعب مع القائد وهنا ظهر مصطلح الناصرية، متابعًا أننا ناصريون لأنه الزعيم المصرى الأصيل الذي حكم مصر منذ الفراعنة وقائد ثورة يوليو ومؤسس تنظيم الضباط الأحرار خرج من وسط البسطاء غير طامع فى جاه أو مال، لم يشغله سوى المواطن وهمومه.
وأكد أن الأقباط عبر العصور السابقة عانوا الاضطهاد إلا في فترات كان الحاكم فيها معتدلًا، ولم ينصلح حالهم بعد ثورة 1952 ولا قبلها، إلا استثنائيًا في فترة حكم «عبدالناصر»؛ منوهًا إلى أنه منذ دخول المسيحية على يد مرقس الرسول ويتعرضون للاضطهاد فى عدة أشكال وصور فيما عدا فترة «ناصر».
وهاجم ما يتحدثون عن فترة الليبرالية قبل ثورة يوليو، قائلًا إن الفترة التي يزعم البعض بأنها ليبرالية كانت غير ذلك ومنها دستور 1923 لم يوافق عليه الملك فؤاد؛ إلا إذا نص فى أحد بنوده على أن دين الدولة الإسلام، والذي كان يحلم أن يكون خليفة للمسلمين، وأيضًا الأحداث الطائفية التي حدثت ضد الأقباط في هذه الفترة؛ منها على سبيل المثال رفض تجديد كنيسة أجل رفض تصريح بناء كنيسة بور فؤاد، محاولة إحراق كنيسة ميت دمسيس، إضرام النار في كنيسة الحضرة وغيرها الكثير.
وأشار إلى أن «عبدالناصر» ومشروعه القومي لمصر، لا يفرق بين أبنائه بسبب الدين، ولكن خوف الأقباط من الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية والقوانين الاشتراكية، والتي سرت على الكل دون تفرقة.