لم يكن شريط الكاسيت مجرد ظاهرة انتشرت فى فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الـ 20 وإنما كان جزءا من حياتنا اليومية، كنا ننتظره فى مطلع كل صيف لنشترى أحدث ألبومات النجوم، وكان دائمًا عمرو دياب ومحمد فؤاد هما الأعلى سعرًا والأكثر رواجًا فى تلك الحقبة، وانتشر بعدها العديد من أجهزة الكاسيت المحمولة أو «الوكمان»، فكان الصاحب فى ساعات السفر والرحلات الصيفية، وتمتلئ الشواطئ بأغانى المطربين.
تلك الأيام لم تدم طويلاً على الرغم من المكاسب التى حققتها شرائط الكاسيت وازدهرت صناعته، بل ظهرت معها مصانع لعمل الشرائط المقلدة والتى كانت تباع على الأرصفة بربع ثمن الشريط الأصلى، لتصبح صناعة شرائط الكاسيت فى طى النسيان مع مرور الزمن، ولم يصمد أمامها سوى شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات التى ما زالت تبيع أرصدتها من الشرائط المتواجدة بمخازنها، وهى النسخ الوحيدة الموجودة بالعالم، وحينما ينفذ رصيدها نكون قد أعلنا انتهاء زمن بأكمله، بعد انتهاء تصنيع شرائط الكاسيت فى مصر والعالم.
ولأهمية تلك الصناعة التى انتهت، تواصلت جريدة «البوابة» مع أندرو سايمون، مؤلف كتاب «إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت فى مصر الحديثة»، وإلى نص الحوار:
■ كتابكم «إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت فى مصر الحديثة» يقودنا إلى الكثير من القضايا حول ماهية إعلام الجمهور أو كما يطلق عليه الآن بعض أساتذة الإعلام بصحافة المواطن.. لماذا اخترت هذه الجملة لتكون بداية عنوان كتابك؟
- فى الحقيقة أن شرائط الكاسيت فى مصر قد مكّنت عددًا لا يحصى من الناس من خلق الثقافة ونشر المعلومات قبل وقت طويل من دخول الإنترنت حياتنا اليومية، بل وإن شرائط الكاسيت، لم تنضم ببساطة إلى الوسائط الجماهيرية الأخرى مثل التسجيلات والراديو؛ فقد كانت وببساطة «إعلام الجماهير» (ولهذا اخترت هذا العنوان للكتاب).
أحاول في كتاب «إعلام الجماهير» أن أقدم تاريخ ثقافي لمصر الحديثة
■ من أين أتت إليك فكرة عمل كتاب يدور حول تاريخ نشأة شرائط الكاسيت فى مصر؟ وكيف رأيتها وفقًا لما جاء فى كتابك باعتبارها جزءا من السياسة المصرية؟
- من الزيارة الأولى التى قدمت فى إلى مصر، جذبتنى البيئة الصوتية الخاصة بالبلد بل أسرتنى. فكل شيء تسمعه الأذن من أصوات الكلكسات إلى الحفلات الموسيقية والفيديوهات الموسيقية، كان له تأثير قوى عليَّ. و بعد أن أكملت منحتى فى مركز لدراسة اللغة العربية من ٢٠١٠-٢٠١١ فى القاهرة، عدت إلى الولاية المتحدة لبرنامج الدكتوراة والذى جعلنى من خلاله أتعمق أكثر فى الثقافة المصرية.
وقمت بإجراء بحث علمى عن الشيخ إمام وشعبان عبد الرحيم وغيرهما، وفى وسط هذه المشاريع المختلفة كان هناك ربط مشترك وهو - شرائط الكاسيت - وذلك الربط جعلنى أتساءل: ما قد نتعلم من قصة هذه التكنولوجيا العادية -الكاسيت - وتأثيراتها غير العادية فيما يخص مصر وماضيها القريب؟ وعندما عدت إلى القاهرة مرة أخرى، بدأت فى قراءة كل إصدار من المجلات الأسبوعية، مثل روز اليوسف وآخر ساعة، حيث رأيت شرائط الكاسيت موجودة فى أماكن غير متوقعة، من قضايا المحاكم ومقالات عن «جريمة الأسبوع» إلى مقالات تصف يوم من أيام فى حياة لاعبى كرة القدم من نوادى الأهلى والزمالك وإعلانات الـ«بيت الحديث»، وأدركت فى تلك اللحظة أننى أستطيع أن أكتب تاريخ مصر من خلال الكاسيت.
استغرقت 10 سنوات لإنجاز كتابي «إعلام الجماهير».. وبدأت زيارتي لمصر حينما كنت أتعلم اللغة العربية وجذبتني أصوات الكلاكسات
■ من أين أتى هذا الربط بين شرائط الكاسيت والوضع السياسى والاقتصادى المصرى خاصة خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين؟
- فى الحقيقة أن ثقافة الكاسيت فى مصر قد أصبحت أكثر انتشاراً فى نفس الوقت الذى انتشرت فيه ثقافة الاستهلاك فى السبعينيات والثمانينيات. وفى ظل الطفرة النفطية والانفتاح، قام العديد من المواطنين بشراء أجهزة الكاسيت من خارج مصر، ففى فترة السبعينيات قد هاجر عدد متزايد من المصريين الى البلدان الأخرى لا سيما بلدان النفط، مثل العراق وليبيا وغيرهما، للبحث عن فرص عمل بأجور أعلى، وفى تلك الفترة أصبح المصريون راغبين وبشدة فى الحصول على أجهزة الكاسيت فى بيوتهم، وكان يجلبونها من تلك البلدان حين عودتهم إلى الوطن، كما توفرت أجهزة الكاسيت فى مصر من خلال الشركات الدولية التى تقوم بتوريد تلك الأجهزة هذا بالإضافة إلى تجار السوق السوداء، والذين لعبوا دورًا كبيرًا فى الاقتصاد المبنى على الاستهلاك، «اقتصاد المستهلك»، حتى أصبحت تكنولوجيا الكاسيت جزءا لا يتجزأ من «البيت الحديث» وسمح لـ«مستهلكي الثقافة» أن يكونوا «منتجي الثقافة» لأول مرة فى تاريخ مصر. وفقاً لذلك، فالكاسيت يقدم لنا نافذة على التغيرات الواسعة فى المجتمع المصرى وفى كتاب «إعلام الجماهير» أحاول أن أقدم تاريخا ثقافيا لمصر الحديثة.
مصر تمتاز بمزيج أصوات مدهش.. ولدى مشروع رقمي جديد سيتاج من خلاله أعمال الشيخ إمام
■ جاءت مقدمة الكتاب مختلفة عما هو متعارف عليه فى الرسائل أو الأبحاث العلمية.. كاتخاذك «كشك لبيع الحلوى والسجائر ليكون هو نقطة الانطلاق».. وتكون الفاترينة المُتربة المليئة بشرائط الكاسيت القديمة ؟
- يروى «إعلام الجماهير» قصة تكنولوجيا يومية وعادية، ولهذا بدأ الكتاب مع مشهد يومى وعادى: الكشك عبر الشارع من شقتى فى المعادى. وعندما تركت شقتى فى يوم من الأيام، رأيت فاترينة شاهقة مليئة بشرائط كاسيت متربة، وعندما سألت صاحب الكشك عنها، قال لى إن «عصر الكاسيت خلاص!، «وبالرغم من ذلك لم يتطرق أحد إلى كتابة تاريخ الكاسيت وثقافته فى مصر - حتى ذلك الوقت-. وبدأت أتساءل ما هى القصص الجديدة التى أستطيع أن أحكيها من خلال شرائط الكاسيت المتربة فى هذه الفاترينة؟ وما هى الدروس التى أستطيع أن اتعلمها من خلال تلك الشرائط فيما يخص الماضي؟ وفى كتاب «إعلام الجماهير، « أشارك قصة مفاجئة لتكنولوجيا معروفة، وأتناول كيف كانت الأشياء العادية التى لا نفكر فيها، مثل الكاسيت، قد تستطيع أن تساعدنا فى فهم الماضى بشكل أعمق و أحسن.
■ رصدت وبمنتهى الذكاء شرائط الشيخ إمام وصديقه الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، واعتبرتها جزءا من الإعلام الجماهيرى.. كيف توصلت إلى تلك الفكرة؟.
- ولد الشيخ إمام قبل ثورة ١٩١٩ بعام وأعيد بث أغانيه مرة أخرى فى ثورة ٢٠١١، فكنت شاهدًا على صحوة الشيخ إمام مرة أخرى فى ميدان التحرير، ورغبت أن أعرف أكثر عن حياته وبدأت فى التحدث مع عدد من المصريين على معرفة قريبة من الشيخ إمام، وفى الكتاب أسلط الضوء على كيف استخدم «الشيخ إمام» شرائط الكاسيت غير الرسمية وغير التجارية، المصنوعة والموزعة على يد مستمعين بشكل فردى، لكى يعارض القصص التى ترويها الحكومة المصرية. كما أتطرق أيضًا إلى أصل هذه الشرائط، والتى لم تصنع فى استوديوهات احترافية، بل كانت تسجيلات لمظاهرات وحفلات خاصة فى شقة الشيخ إمام ونجم وخارجها. كما أرصد أيضًا كيف سافرت هذه الشرائط قريباً وبعيداً، داخل مصر وخارجها. ومن خلال هذه التسجيلات كتب «الشيخ إمام» تاريخ مصر من جديد أمام جمهور واسع.
ساعدتني «شرائط الكاسيت» في فهم الماضي بشكل أعمق وأحسن
■ الحديث عن شرائط الكاسيت خاصة وأنها خلال العصر الحالى أصبحت فى طى النسيان؟ ما هى أهم الإشكاليات التى واجهتك خلال عملك البحثي؟.
- واجهت شرائط كاسيت متنوعة ومختلفة طوال عملى البحثى فى مصر، من كاسيت الشيخ عنتر سعيد مسلم الذى منعه الأزهر من تلاوة القرآن، إلى خطب محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات، إلى شرائط مسجل عليها أغانى ونكات ورسائل صوتية خاصة. فى الفصل الأخير لـ«إعلام الجماهير، « أنا استكشف شرائط الكاسيت التى كانت موجودة فى مصر، وغالبا طواها النسيان، والقصص التى تضمها فيما يخص مصر و تاريخها.
■ جاء فى مقدمة الكتاب وصف للمواد المسموعة فى مصر أو بمعنى أدق قمت بوصف شرائط الكاسيت باعتبارها «أرشيف الظل» المصري؟
- فى «إعلام الجماهير، « كتبت تاريخ مصر من غير دار الوثائق القومية، واستندت على مواد تاريخية متنوعة - مواد صوتية وبصرية ونصوص - تكون موجودة خارج أرشيفات الدولة (يعنى خارج مجموعات المواد تحت سيطرة الدولة). وتشمل تلك المواد الأفلام والمذكرات والكتابة على المواقع الاجتماعية مثل الفيسبوك وتسجيلات الكاسيت وكتالوجات الكاسيت وصور شخصية ومجلات مصرية، مثل روز اليوسف وآخر ساعة، ومواد أخرى. وتجتمع هذه المواد أن تشكل ما أسميه «الأرشيف الظل المصرى، « أو سلسلة من المواد التى تكون موجود فيها «فى ظل»، حيث يقدم لنا أرشيف الظل المصرى نظرة حية وجديدة فى الماضى القريب لمصر و يقود انتباهنا إلى القصص المختلفة والمواد التاريخية المتنوعة.
■ هل واجهتك صعوبات فى إيجاد بعض المواد التى استندت عليها فى عملك البحثى، خاصة وأنها تتسم بالمواد النادرة أو التى تعود ملكيتها لأفراد وليست للحكومات أو مراكز المعلومات؟
- نعم، واجهت تحديات كثيرة خلال عملى البحثى لهذا الكتاب لكن مع كل صعوبة فرصة. فيما يخص المواد التاريخية، أطرح عددا من الأسئلة فى «إعلام الجماهير.» كيف نستطيع أن نكتب تاريخ بلد ما مثل مصر من غير الأرشيفات الدولية الخاصة بها؟ وكيف نستطيع أن نوسع الآفاق المنهجية لعملية بحثية؟ وأحد المصادر فى هذه القصة هى الصحافة المصرية الدولية. وذلك من خلال تحليل كل شيء من مقالات وإعلانات و«جرائم الأسبوع» إلى الرسوم وقضايا المحاكم وأخبار المشاهير، ولهذا أرجو القراء أن يتصور «الأرشيف» من جديد.