قال الكاتب والمحلل السياسى التونسى عادل البرينى، إنه فى 30 يونيو الماضى صدر الدستور التونسى فى مسودته، واطلع عليه رئيس الجمهورية وأخرجه فى «الرائد الرسمى» وهو الوثيقة الرسمية التى بها يصبح الدستور جاريا به العمل فى انتظار الاستفتاء الرسمى فى 25 يوليو الجارى.
وأضاف «البرينى»، لـ«البوابة نيوز»، أن وجهات النظر تفاوتت حول مشروع الدستور الجديد من قبل المعارضين والمساندين وكذلك الذين يقفون فى الوسط إن صحت هذه العبارة.
وأكد الكاتب التونسى، أن المعارضين لهذا الدستور هم المعارضون لمسار 25 يوليو ككل وللرئيس قيس سعيد، وقد أثر موقفهم من المسار ومن الرئيس سعيد على موقفهم وقرارهم من الدستور، أى أن الأخير لم يخضع لقراءة ومراجعة دقيقة لأبوابه وللفصول التى احتواها بقدر ما كانت قراءة ذوقية انطباعية تستند للمواقف السياسية أولا وأخيرا، ومن هذا المنطلق جاءت مواقف الأحزاب المعارضة مواقف رافضة للدستور وداعية لمقاطعة الاستفتاء.
وأوضح أن المساندين للمسار الجديد الذى أعلنه الرئيس فى نفس هذا التوقيت من السنة الماضية، أغلب مواقفهم إيجابية من هذا الدستور، وبينوا أن هذه الأبواب من الدستور تحقق وحدة الدولة التونسية، وتعيد إليها الاعتبار، وتسهم فى تحويل صورة النظام السياسى التونسى من نظام مشتت ومبعثر سياسيا كما هو الحال فى الدستور السابق، حيث كانت السلطات موزعة بطريقة غير متكافئة بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
انتهاء تهميش صورة رئيس الجمهورية
ويرى المؤيدون أيضا أن السلطة التنفيذية لم يكن بها لرئيس الجمهورية بالذات دور كبير فى هذه السلطة، فقد كان على هامش السياسة العامة للدولة، وهذا ما تؤكده صورة رئيس الجمهورية الأولى وفترة حكم الرئيس المنصف المرزوقى وفترة حكم الرئيس الباجى قايد السبسى، ولا تخفى على الدارسين الصورة الجديدة لرئيس الجمهورية من خلال هذا الدستور الجديد، والذى يريد أن يرسيها الرئيس قيس سعيد حتى يقطع مع التهميش الذى لحق بهذه الصورة مثل التبعية التى ظهرت بها صورة الرئيس فى الدستور القديم لبقية السلطات.
أما الجهة الثالثة، وهى صاحبة الموقف الثالث من الدستور، فهى جهة الاتحاد العام للشغل وبعض المنظمات الوطنية وبعض الجمعيات وبعض الشخصيات العامة وبعض الأحزاب ومثل هذه الجبهة لم تتسرع باتخاذ موقف من الدستور مثلما لم تتسرع فى الحسم من مسار يوليو نهائيا لا سلبا ولا إيجابا، وظلت على مختلف المراحل التى مر بها المسار تراوح بين مساندة المحطات الرئيسية ومعارضة الكثير من التفاصيل والجزئيات لما يؤسسه هذا المسار.
ويرى «البرينى» أن موقفها يهدف إلى تصحيح بعض القرارات مع الرغبة فى استمرار مسار جويلية وجعله أكثر تشاركية بين مختلف الفاعلين السياسيين، وهناك دعوة للحفاظ على المسار وعدم العودة لما قبل جويلية أو العشرية السوداء كما يصفها معارضو المرحلة السابقة، وهم لديهم الكثير من النقاط التى يعلقون عليها.
ومثال ذلك الاتحاد العام للشغل دعا إلى ندوة للمختصين وخبراء فى القانون الدستورى وأساتذة فى الدساتير لدراسة هذا الدستور الجديد وإصدار حكم بشأنه، والاتحاد معروف بأنه يدعو للقطع مع المرحلة السابقة، ويحاول أن يقدم بعض الاضافات لعدم السقوط فى الفردانية، وهو موقف يدعو الى الإصلاح والتصويب ومراجعة الكثير من المواقف والقرارات ومحاولة تجويد المسار قدر الإمكان.
موقف الشعب التونسى.. وفشل المعارضة فى استقطابه
وشدد «البرينى»، على أن الشعب أمام دستور جديد، وفى عمومه لا يرفضه، وهذا الحكم جاء من خلال موقف المعارضة الضعيف، التى تستطيع استقطاب الشارع ولا إقناع مختلف فئات الشعب التونسى فى أن هذه المرحلة يجب أن تتوقف وأن هذا الدستور يجب رفضه بالكامل، فهذا اتجاه فشلت فيه المعارضة، رغم استمرار البعض في الدعوة للمقاطعة، فالرافضون يدعون للمقاطعة، وفى الحقيقة الدعوة للمقاطعة لا تلقى رواجا كبيرا فى تونس.
ولفت «البرينى» إلى أن الكثير من الشخصيات الوطنية والفاعلين السياسيين يدعون الى المشاركة بإبداء الرأى سواء بـ"نعم" أو بـ"لا" وفى الحقيقة هى رؤية عقلانية يدعو لها كل الذين يحرصون على مستقبل البلاد، وعدم الزج بها فى أتون الصراعات، ومحاولة الخروج نهائيا من السنوات العشر السابقة التى أضاعت هيبة الدولة ومؤسساتها ومصالح الشعب، وأضاعت مختلف أهداف الثورة التونسية.
وشرح أن العلامة المميزة لهذا الاستفتاء أنه سيمر دون نسبة محددة، سيمر أى كانت نسبة المشاركة فيه، والتونسيون مقتنعون أن من يريد إيقاف هذه النسخة الجديدة عليه المشاركة بكثافة وإبداء الرأى بـ"لا»، إلا أن قراءة موضوعية واقعية للساحة الاجتماعية والسياسية والشعبية فى تونس تؤكد أن هذا الدستور الجديد سيحظى بالموافقة، وسيمر نظرا لاحتوائه على الكثير من الومضات الجديدة التى يرى فيها التونسيون خروجًا من الأزمة الحالية.
مجلس الجهات والأقاليم.. ملامح جديدة
وقال «البرينى»: إن مسودة الدستور الجديد تضم جملة من الملامح الجديدة التى يمكن تلخيصها فى عدد من النقاط، أولها أنه لم يقطع بالكامل مع الدستور السابق، بل حافظ على النقاط الإيجابية والإجماعية، حتى أن قرابة 60 فصلا من الدستور القديم مضمنة فى الدستور المقترح الذى يضم 142 فصلا أو مادة دستورية.
وهذه الفصول تؤطرها عشرة أبواب فيها توطئة، والباب الأول هو باب الحقوق والحريات وهو باب يحافظ على الحقوق السياسية وحق التنظم وحق الإضراب لكثير من القطاعات المعنية بالعمل النقابى والحق فى التظاهر والحق فى التعبير، كما حافظ على مكاسب الثورة المتعلقة بالحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية.
وتابع، هناك باب ثان يتعلق بالسلطة التشريعية، والجديد به أن أضاف سلطة ثانية للبرلمان سماها «مجلس الجهات والأقاليم» وهى إضافة تعكس رؤية الرئيس قيس سعيد القائمة على أن تونس الأعماق وكل المناطق الداخلية يجب أن تكون موجودة فى النظام السياسى التونسى، ويجب أن تكون فاعلة، ويجب أن تقطع مع البرلمان الذى يمثل طبقات بعينها وعائلات سياسية معينة، وهناك الكثير من الطرق الملتوية وغير الشرعية للوصول لهذه السلطة الشرعية المسماة بمجلس النواب.
وألمح إلى أنها إضافة من رئيس الجمهورية، وليست من بنات أفكار الهيئة الاستشارية التى أوكل لها مهمة إعداد الدستور، ورؤية رئيس الجمهورية ترى أن المحليات والمعتمديات والقرى والمشايخ يجب أن تكون ممثلة من خلال مجلس جهوى أولا، ويتم تصعيد عناصر معينة منه إلى مجلس وطنى للجهات والأقاليم، ويعمل بالتوازى مع مجلس النواب فى نظر ميزانية الدولة، والنظر فى السياسيات خاصة التنموية، وما له علاقة بالمشاريع والاستثمارات والمسائل الداخلية التى تخص المحافظات والأقاليم.
الخروج من النظام البرلمانى وأزماته السياسية
وشرح «البرينى» أن باب آخر حول الوظيفة التنفيذية، هناك سلطات سلطة رئيس الجمهورية وسلطة رئيس الحكومة، الجديد فيها وهى من نقاط الاختلاف الكبيرة بين هذا الدستور وبين الدستور السابق هو عودة الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية، وهذا يعنى أن هذا الدستور الجديد قائم على فكرة أولى وهى الخروج من النظام البرلمانى الخالص تقريبا الذى كان يسيطر على دستور 2014 والذى أفرز أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية حادة فى البلاد، لذا الخروج منه إلى نظام رئاسى فيه محاولة للتقريب بين السلط وعدم الفصل التام بينها.
وأشار الكاتب التونسى إلى أن هناك بعض المعانى المهمة اللافتة للنظر، منها أن مهمة رئيس الجمهورية تصبح وظيفة يؤدى مهمة معينة لصالح الشعب، ويحاسب أمامه إما بتجديد فترة ولايته أو انتخاب رئيس جديد، وتدوم مرحلة فترة الرئيس لمرحلتين نيابيتين فى كل مرحلة 5 سنوات، وينسحب على مجلس النواب مدته النيابية 5 سنوات، وكذلك مجلس الأقاليم مدته النيابية 5 سنوات، ثم تنظم انتخابات تشريعية ورئاسية كل خمس سنوات.
وأكمل «البرينى»: يعود النظام الرئاسى وتعود الصلاحيات لرئيس الجمهورية، وهى صلاحيات تشريعية وسياسية واقتصادية تتعلق بإبرام الاتفاقيات والمعاهدات وإعلان الحرب وإعلان السلم، وتعيين الوزراء، ورئيس الحكومة، والتدخل فى مختلف السياسيات التى تضبط الصالح العام فى البلاد.
أما سلطة مجلس النواب، وهذه السلطة تندرج تحتها عمليات النظر فى مشاريع القوانين حيث تقع مناقشتها بين النواب ثم رفعها للحكومة ومنها لرئاسة الجمهورية ثم النزول فى شكل قرارات وأوامر رئاسية مع الوظيفة التشريعية والتنفيذية.
قضاء فى إطار مؤسسات الدولة
وقال «البرينى»: نحن نعلم أن الرئيس أعفى أكثر من 50 قاضيا بتهم الفساد وعدم تكريس العدالة فى تونس، وفى الدستور الجديد تحظى الوظيفة القضائية بقيمة بالغة، وهذه القيمة مفاداها أن القاضى فى الدستور صاحب وظيفة ومكلف بمهام معينة شأنه شأن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان.
والقضاة يعملون فى إطار الدولة دون أن يكونوا مستقلين عن السلطة التنفيذية، يتعاملون معها ومع التشريعية، ولا يمثل سلطة مستقلة بذاته، بينما يتمتع القضاء باستقلالية تامة فى اتخاذ قراراته المتعلقة بتحقيق العدالة، والنظر فى مختلف القضايا، وإصدار الأحكام.
المجلس الأعلى للتربية والتعليم
وأوضح «البرينى» أن الدستور الجديد استحدث إنشاء المجلس الأعلى للتربية والتعليم، وهو من الاضافات الجديدة للدستور ومنوط به إحداث نقلة نوعية فى التعليم التونسى الذى كان يحظى بصورة ناصعة قبل الثورة، حيث حافظت الشهادة العلمية التونسية على امتيازات كثيرة فى الخارج، لكنها تردت فى الكثير من المطبات بعد الثورة.
وأضاف: هذا المجلس ستحدد صلاحياته وكيفية الترشح إليه، وتركيبته الأساسية لتكون مهمته إعادة المنظومة التربوية للطريق الصحيح، إيمانا من القائمين على الدولة بأن التعليم والتربية هما قوام الحضارة والتقدم والمدنية، فالدستور يمثل نقلة جديدة، والكثير من التونسيين امتلك سقف توقعات أقل بكثير مما جاء به هذا الدستور الجديد.
حضور المسألة الدينية
أكد «البرينى»، أن الدستور التونسى نص فى فصله الخامس على عبارة جديدة مفاداها أن تونس جزء من الأمة الإسلامية والدولة تقوم برعاية مقاصد الإسلام مثل حفظ المال وحفظ العرض وحفظ الدين وحفظ الكرامة وحفظ العقل، وهذه المقاصد أسقطت الكثير من أوراق الضغط التى كانت بيد المناوئين لهذا الدستور ولهذه المرحلة وخاصة أنصار الحركة الإسلامية فى تونس.
كما أنه حافظ على حرية المعتقد وحرية الضمير، وفى المقابل أكد على أهمية الانتماء العربى، ففى الفصل السادس ذكر أن تونس جزء من الأمة العربية، وفى الفصل السابع تنصيص على أنها جزء من إقليم المغرب العربى الكبير، وهذه المستويات الثلاثة هى التى تحدد علاقة تونس بمحيطها الخارجى المحيط المغاربى والعربى والإسلامى.
الإضراب والقطاعات المستثناة
وكشف الكاتب التونسى، أيضا أن الدستور الجديد حافظ على حق الإضراب وجعله مكفولا لكل القطاعات المهنية ماعدا سلك القضاة والأمن والجيش والديوانة وحرس الحدود.
ووصف «البرينى» رؤية الدستور بأنه رؤية جديدة فى هذا المستوى تقطع مع المظاهر التى سادت فى تونس فى العشر سنوات الأخيرة بعد الثورة مثل كثرة النقابات الأمنية والاحتجاجات التى تنطلق من جهاز الدولة نفسه وتستهدف جهاز الدولة أيضا، كما أنه ينجح فى سد الكثير من الثغرات التى ظهرت فى الدستور السابق، ويقطع مع الانحلال ومع الكثير من الخلافات التى كانت فى المرحلة السابقة.
وأكد «البرينى»، فى النهاية أن المجتمع التونسى يشهد العديد من النقاشات المستمرة بشأن الدستور المطروح على الاستفتاء فى وسائل الإعلام والصحف وفى الأحزاب والنقابات والمنظمات وغير ذلك لحين موعد الاستفتاء المقرر فى 25 جويلية الجارى.