لم تكن محافظة المنيا بعيدة عن هبات رياح الثورة المصرية في 30 يونيو 2013، فكانت جزءًا أصيلا من الثورة، ولعل الأحداث التى عاشتها في أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية، يعكس حجم الفاتورة القاسية للمواجهة الضروس.
ضرب المصريون النموذج والمثال على الإخاء والوحدة أمام طاغوت الإخوان، ويرجع الفضل لطبيعة المصري الأصيل وحكمة القيادة الدينية المتواجدين علي حافة اللهب آنذاك.
لحظات وتاريخ سطر حروفه بأمانة شديدة الأسقف والراعى، الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا الذى يلقبه الأقباط بـ«أسد الصعيد»، حينما سجل تفاصيل «رحيق الاستشهاد» ذلك العنوان الذى لم يكن بعيدًا عنه حيث كان أبرز الأسماء المستهدفة من جماعات الشر والإرهاب حاول النيل منه مرارًا ، جاء كتابه يؤرخ اللحظات ويضع إطارا للصورة ومزيجا من الإيمان والوطنية والبذل والعطاء وسلامة الوطن أولوية لامحالة وسط أحلك الظروف.
جاء كتاب «رحيق الاستشهاد» في ثلاثة فصول تحكى الواقع المُعاش، الأول: «أبواب الجحيم لن تقوى عليها»، فنّد فيه الأماكن والأحداث التى طالها اعتداءات الإرهابيين فى ربوع الوطن (سوهاج، المنشاة، أسيوط، أبنوب والفتح، القوصية ومير، دير مواس، المنيا وأبو قرقاص، سمالوط، بنى مزار، مغاغة، الفيوم، والجيزة، أطفيح، شمال الجيزة، 6 أكتوبر، أوسيم، وشمال سيناء، والقاهرة، والإسكندرية، وبيانات الكنيسة المركزية والبيانات المحلية بشأن الأحداث الإرهابية)».
وجاء الفصل التانئ يتضمن كل ما كتب وسطر عن أحداث الإرهابيين تجاه الكنائس والأقباط بعد الثورة، والفصل الثالث: ضم قائمة بالكنائس والمنشآت المسيحية التى تعرضت للاعتداءات والتدمير، وقائمة تضم ممتلكات المسيحيين التى تعرضت للاعتداء.
بعض الأوراق تحمل طيات أيام حالكة السواد وآنين ولهيب النيران التى أكلت حتى المباني والخرسانات الخاصة بالكنائس، تكشف شهادة الرجل الصامّد حجم الهجمة الشرسة وبركان الإرهاب والمتشددين الذى انفجر بأرض المنيا أعقاب ثورة يونيو التى بّددت مخططات الجماعات الإخوانية والأجندات المدفوعة.
لم تستطع مخالب الإخوان الذين استهدفوا المنيا بأن تكون إمارة لهم بعد سقوط مندوبهم فى الرئاسة، ورغم الخسائر ومحاولات ضرب الصف دفع الأقباط فاتورة من حرق وتدمير كنائس ونهب وسلب محال تجارية وممتلكات خاصة وإصابة واستشهاد الكثيرين، وكانوا كسائر المصريين فى صف واحد لصالح مصر أولاً وأخيرًا.
يقول الأنبا مكاريوس فى شهادته على صفحات كتابه الحافل بالأرقام والتوثيق، «تعرضت الكنيسة لهجمة شرسة من المتشددين الإسلاميين، واستهدفت كنائس جميع الكنائس ومؤسساتها، إضافة إلى المساكن والمتاجر، فى ذلك اليوم تعرضت حياة جميع أقباط مصر للخطر، وتوقع كل قبطى أن الموت قاب قوسين أو أدنى منه، وكذلك توقعوا فقدان كل ممتلكاتهم العامة والخاصة، وبينما كانوا يسمعون ويقرأون عن عصور الاضطهاد والاستشهاد، فقد عاشوا هذه الخبرة، وكان من نتائج ذلك سلوك المسيحيين بشكل يمجد الله ويعكس محبتهم للوطن ونبذهم للعنف، لم يرفعوا عصا أو يرفعوا حجرا فى وجه المعتدين، وهكذا تأكد للجميع أنه لا أسلحة فى كنائسهم كما ادعى البعض عليهم، بل تجاوزوا الأزمة وشجعوا أولادهم وعادوا إلى كنائسهم المحترقة يصلون فيها لأجل الذين أحرقوها، طالبين من الرب أن يغفر لهم».
وأضاف «نال الأقباط الكثير من التقدير والتكريم.. وذاق الأقباط طعم الاستشهاد والشهادة للمسيح، واختبروا معانى أعمق للكنيسة».
لم يخلُ كتاب الأسقف من اسم مصر التى هي محور الاهتمام ومصدر الحماية والأمان، يكتب ختامًا فى صفحات كتابة «عاشت مصر وعاشت الكنيسة منارة للحب والتسامح وشاهدة لله والمجتمع»؛ لتكون توثيقا ومرجعا للأجيال حتى يبصروا ما قدمت الأجيال السابقة وكيف كانت واجهة مصر وأبنائها مسلمين ومسيحيين ورجال أمناء على المسئولية كانوا خير سند ومستند ومعين، لتبقي مصر الحاضنة للمصريين والطاردة لكل المتشددين.