لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة.. لك والملك.. لا شريك لك لبيك.
لبيك يا رب وقد لبَّت نحو حضرتك الأرواح في عالم الذَّرِّ يوم أن سمعت النداء والأمر لأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}.
ومنذ ذلك الوقت والقلوب يستبد بها هوى جارف، وحنين طاغ، وشوق لهيف إلى بيت الله الحرام، وفي كل عصر وآن كلما أحست النفوس من ذلك ريًّا، إذا بها يستولي عليها ظمأ شديد وعطش غلاب، يطالبها بمزيد من الري، وبأضعاف من الارتشاف للتحرك ما بين زمزم والصفا وروضة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
عبر التاريخ ولم يزل الشوق المكنون في قلوب المسلمين للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدو المسلمين من أقاصي الأرض في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، فمنهم من مات في طريقه إلى الحج، ومنهم من أصابته شدائد في سفره، فما ضرهم ما أصابهم، بل تحملوا الشدائد راضين سعداء، راجين رضوان الله، ومنهم من ظل لسنوات يجمع نفقة الحج وينتظر الفوز برحلة قدسية تقرِّب نفسه لباريها، وتملأ قلبه طمأنينة ورضا، وتسكب في روحة رياحين الرضا، ويرجو بذلك الوصول في الدنيا الفوز بلذة النظر إلى وجه الله الكريم .
إنه الشوق إلى أرض الرحمات، إنه الشوق إلى أرض العطايا والهبات، فحُقّ للنفوس أن تتوق، وحُقّ للأرواح أن تحلّق أملًا في الوصال، فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرغبة، ويحرك في قلبك الشوق.
- حج الشبلي، فلما وصل إلى مكة جعل يقول: "أبطحاء مكة هذا الذي أراه عيانًا وهذا أنا؟! ثم غشي عليه، فأفاق وهو يقول:
هذه دارهم وأنت محب
ما بقاء الدموع في الآماق
الشوقُ إلى البقاع الطاهرة حديث قلبِ كل مسلم والحنين يسوق النفوس إلى البلد الأمين، لا يقضون منه وطرا، يأتون ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.. الكعبة مثابة للناس؛ فمن ارتكب ذنبا، أو ذلت به قدم.. طاف بالبيت، وصلى مستقبلا القبلة، أو حج هذا البيت ليغفر ذنبه، ويصحح مساره، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.. سأل إبراهيم -عليه السلام- عندها الأمن والأمان، ولا تطيب الحياة بلا أمن، ولا يُستساغ الشراب بلا أمان، وإذا شاع الخوف فسدت الدنيا، وتنغص العيش، وحل بالناس الهلع والذعر.
ولعلي استدعي من ذاكرة التاريخ أشواق الشيخ البرعي حين بثها شوقا وحنينا إلى بيت الله الحرام بعدما حمل على جمل بين رفاقه وقد أقعده المرض العضال:_
ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها
وأنا المتيم قد نحرت فؤادي
لبسوا ثيابًا بيضًا شارات الرضا
وأنا الملوع قد لبست سوداي
فإذا وصلتم سالمين فبلغوا
مني السلام أهيل ذاك الوادي
قولوا لهم عبد الرحيم متيم
ومفارق الأحباب والأولاد
وبينما هو في مكانه ذاك الذي لا يبعد كثيرًا عن مكة فإذا به يرى رفاقه من الحجاج قد وصلوا عرفات ومنى، وقد ذبحوا الذبائح، بينما هو يأخذه الندم والعجز عن اللحاق بهم، ثم إنه ليراهم وقد لبسوا الثياب البيض، والتي هي من شارات الرضا، وكيف أنه قد لبس بالمقابل السواد لبعده عنهم وعن البيت العتيق، فيجري مقابلة يعبر فيها بالبياض كرمزية للخلاص، وبالسواد والذي يرمز للحظ العاثر، وهو لا يكتفي بتلك المشاهد، بل يخاطب الحجاج وكأنه على ثقة من سماعهم له، ويناشدهم أن يبلغوا سلامه لتراب تلك الأرض التي شهدت سيرة النبوة، ومولد النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله وسلم»، طالبًا منهم أن يبلغو حضرته النبوية الشريفة أنه متيم ومحب وعاشق، وأنه قد وصل إلى النهاية حيث الموت، فهو مودع هذه الحياة، مفارقًا لها ولمتاعها وزينتها من الأحباب والأولاد.
صلى عليك الله يا علم الهدى
ما سار ركب أو ترنم حادي
ويستسلم البرعي العاشق لمصيره الأكبر، لكنه وقبل الرحيل يصلي على النبي، يعلن عن حبه الذي ملأ فؤاده بكلمات الصلاة على النبي، والتي يتمنى أن يقول بها كل ركب متجه إلى بيت الله، وأن يترنم به كل حاد لركب الحجاج المتجهين إلى الأماكن المقدسة.
فسلام على الشيخ الجليل يوم جادت قريحته:_
ﻳﺎ ﺭﺍﺣﻠﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﻰ ﺑﻘﻴﺎﺩﻱ
ﻫﻴﺠﺘﻤﻮﺍ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺮﺣﻴﻞ ﻓﺆﺍﺩﻱ
ﺳﺮﺗﻢ ﻭﺳﺎﺭ ﺩﻟﻴﻠﻜﻢ ﻳﺎ ﻭﺣﺸﺘﻲ
ﺍﻟﺸﻮﻕ ﺃرﻘﻨﻲ ﻭﺻﻮﺕ ﺍﻟﺤﺎﺩﻱ
ﻭﺣﺮﻣﺘﻤﻮﺍ ﺟﻔﻨﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡ ﺑﺒﻌﺪﻛﻢ ﻳﺎ
ﺳﺎﻛﻨﻴﻦ ﺍﻟﻤﻨﺤﻨﻰ ﻭﺍﻟﻮﺍﺩﻱ
ﻭﻳﻠﻮﺡ ﻟﻲ ﻣﺎﺑﻴﻦ ﺯﻣﺰﻡ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎ ﻋﻨﺪ
ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮﺕ ﻣﻨﺎﺩﻱ
ﻭﻳﻘﻮﻝ ﻟﻲ ﻳﺎﻧﺎﺋﻤﺎ ﺟﺪ ﺍﻟﺴُﺮﻯ
ﻋﺮﻓﺎﺕ ﺗﺠﻠﻮ ﻛﻞ ﻗﻠﺐ ﺻﺎﺩﻱ
مات البرعي العاشق وبقت ابياته على قيد الحياة يترنم بها المشتاقين إلى تلك البقاع الطاهرة.
رحم الله البرعي ورحم من بعده كل محب مشتاق.
آراء حرة
هذه دارهم وأنت محب
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق