بعد أيام قليلة تحتفل مصر بعيد الأضحى المبارك، وهو أيضا ذكرى لقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، عندما أراد التضحية بابنه إسماعيل، تلبية لأمر الله، يقوم المسلمون بالتقرب إلى الله في هذا اليوم بالتضحية بأحد الأنعام، ومن هنا جاء مسمى عيد الأضحى.
وليس العيد تقليدًا نفرح فيه ونذبح الأنعام، بل ما زالت التضحية تعيش فينا نحن المصريين، وكما أخذ سيدنا إبراهيم ابنه البكر لكى يقدمه أضحية لله سبحانه وتعالى، هناك الآلاف من الآباء والأمهات المصريين قدموا أبناءهم فلذات أكبادهم فداء للوطن، وفداء لنا جميعا، ضد الإرهاب، تلك التضحيات لم تفرق بين المصريين مسيحيين أو مسلمين، فقتل الإرهاب شهداء مثل محمد مبروك، ومينا دانيال، والشيخ عماد، وإسكندر طوس.
وما زال الشعب المصري يضحي بشكل يومي من دماء أبنائه، ويودعهم على أمل النصر أو الشهادة، لا يوجد شعب دفع من دماء أبنائه مثل شعبنا، ومنطقتنا العربية التي دفعت طوال العشر سنوات الماضية فقط من الحروب الداعشية ما يقارب عشرة أمثال خسائرنا مع العدو الصهيوني من قتلى وجرحى ومهجرين ومشردين ولاجئين، كل عائلة تقريبا دفعت ثمنًا كبيرًا فى مواجهة الإرهاب الأسود الدموي.
ويتزامن عيد الضحية مع احتفال المسيحيين شرقًا وغربًا بعيد استشهاد القديسين بطرس وبولس على يد الإمبراطور الرومانى نيرون، ويفطر الأقباط بعد صوم زاد عن الشهر ويرفعون صلاة القداس وطقس اللقان.
وفي البداية استشهد القديس بطرس «مصلوبًا» حوالى العام 64 للميلاد على تلّة «Vaticanus» وهى إحدى التلال السبعة لمدينة روما القديمة ومنها جاء اسم الفاتيكان حيث بُنيت الكنيسة على اسمه «القديس بطرس»، بينما استشهد القديس بولس بقطع رأسه فى العام 67 فى المنطقة التى تسمى الينابيع الثلاثة خارج أسوار المدينة.
وبذلك اعتبر القديسين الكبيرين «بطرس» و«بولس» ودورهما فى "تأسيس وبناء" روما المسيحية، كما تشير العديد من الترانيم القديمة على اعتبارهما "عمودَي الكنيسة" و"والدَي روما" بالكلمة والدم أي بالتبشير وبالاستشهاد.
كما يتزامن مع عيد الضحية صيام الرسل، وحول ذلك يقول البابا شنودة الثالث في كتاب «كلمة منفعة»، إنه لا يجب أن يستهن أحد بصوم آبائنا الرسل، حيث يعد أقدم صوم عرفته الكنيسة المسيحية وذلك في كل أجيالها، استدلالًا على قول الكتاب المقدس: «ولكن حينما يرفع عنهم العريس فحينئذ يصومون».
صام الآباء الرسل في الكنيسة الأولى صيام الرسل الذي جاء بمثابة بداية لخدمتهم وتضحياتهم مثلما فعل السيد المسيح، حيث إنه قبل بدء خدمته صام أربعين يومًا وأربعين ليلة على الجبل، وبالتالي هو صوم خاص بالخدمة والتضحية من أجل الكنيسة.
الفداء والتضحية في المسيحية
وعن الفداء والتضحية في المسيحية جميع البشر بحاجة إلى الفداء. فقد اتسمت حالتنا الطبيعية بالذنب: «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ». (رومية 3: 23)، وقد حررنا فداء المسيح من الذنب وصرنا «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ». (رومية 23: 24).
تتضمن مزايا الفداء الحياة الأبدية «رؤيا 9:5-10»، ومغفرة الخطايا «أفسس 7:1»، والبر «رومية 17:5»، والتحرر من لعنة الشريعة «غلاطية 13:3»، والتبني في عائلة الله «غلاطية 5:4»، والتحرر من قيود الخطية «تيطس 14:2؛ بطرس الأولى 14:1-18»، والسلام مع الله «كولوسي 18:1-20»، وسكني الروح القدس فينا «كورنثوس الأولى 19:6-20». فكوننا مفديين، إذاً يعني أن خطايانا قد غفرت، وأننا قد تقدسنا، وتبررنا، وتحررنا، وأصبحنا أبناء، وتصالحنا مع الله. انظر أيضًا «مزمور 7:130-8»؛ «لوقا 38:2»؛ «أعمال الرسل 28:20».
وكلمة يفدي تعني «يعتق أو يدفع ثمن»، وكان هذا التعبير يستخدم بصورة خاصة فيما يتعلق بتحرير العبيد، ويحمل استخدامه في صلة مع موت المسيح على الصليب معاني كثيرة. فإن كنا قد تم «فداؤنا» فلابد أن حالتنا الأولى كانت حالة عبودية. لقد دفع الله ثمن تحريرنا، فلسنا بعد تحت وطأة الخطية أو ناموس العهد القديم، وهذا الاستخدام البلاغي لكلمة «الفداء» هو ما تعلمنا إياه «رسالة غلاطية 13:3 و5:4».
ويتعلق بهذا المبدأ المسيحي الذي يتناول فكرة الفداء كلمة فدية. فالمسيح دفع ثمن تحريرنا من الخطية وعواقبها «متى 28:20»؛ «تيموثاوس الأولى 6:2». فموته كان مقابل حياتنا، والحقيقة أن الكتاب المقدس واضح جدًا فى أنه يمكننا الحصول على الفداء «من خلال دم المسيح» فقط، أي بموته بدلًا عنا «كولوسي 14:1».
ومن الفداء في المسيحية إلى الفداء في الإسلام
ويقول الفقيه بكر أبو طاعة: «قدَّم الإسلام العديد من النماذج الحية في التضحية والفداء عبر تاريخه؛ لِما لها من أجرٍ عظيمٍ عند الله تعالى حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مجروح يُجرَحُ في سبيلِ اللهِ واللهُ أعلمُ بمن يُجرَحُ في سبيلِه إلا جاء يومَ القيامةِ وجرحُه كهيئتِه يومَ جُرِحَ، اللونُ لونُ الدَّمِ، والريحُ ريحُ الِمسكِ)، وذلك من أجل إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ ونشر دعوة الإسلام في جميع بقاع الأرض».
مفهوم التضحية هي بذل كل ما هو باستطاعة الإنسان أن يبذله من نفسٍ ومالٍ ووقتٍ وجهدٍ، من أجل كسب رضا الله تعالى وتبليغ رسالة الدعوة الإسلامية لجميع البشر؛ وذلك لإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فالمطلوب من المسلمين الجهاد في سبيله تعالى الذي لا يتحقق إلا بأناسٍ يُضحُّون بكل شيءٍ من أجل إظهار الحق وإزهاق الباطل ونشر العدالة بين الناس، فلا غنىً عن التضحية وبذل الغالي والنفيس من أجل مرضاة الله عزَّ وجلًّ والفوز بجنته. ميادين التضحية في الإسلام تتسع رقعة التضحية في جوانب كثيرة، ولكن يمكن حصرها فيما يلي:
التضحية بالنَّفس: ويكون ذلك بالجهاد في سبيل الله تعالى الذي يُعتبر ذُروة سنام الإسلام، وهو من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأفضلها، ومن التجارة الرابحة للإنسان فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"،وقد توعد الله عزَّ وجلَّ من ترك الجهاد والتضحية في سبيله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
التضحية بالأموال: فقد حثَّ الإسلام على الإنفاق في سبيل الله تعالى وجعلها من أعلى مراتب الإيمان واليقين بالله تعالى حيث قال: «إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ»، ونقتدي بسيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عندما ضحَّى بماله وجهَّز ثلث جيش العسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ».
التضحية بالعلاقات الاجتماعية، وتشمل الأهل والعشيرة والأقربين، وأعظم موقف تجسدت فيه هذه التضحية هي هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة بعد أن تخلوا عن كل ما يتعلق بهم استجابةً لأمر الله تعالى إذ قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».
التضحية بالوقت والجهد، يُبدي المسلم أهمية قصوى للوقت، ومن أفضل الأمور التي تُضحي بوقتك من أجلها هي الدعوة إلى الله عز وجل وإعطاء الجهد الكامل في تبليغها للناس.