على الرغم من أن التحول لاستخدام الطاقة النظيفة، أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، خاصة في ظل أزمة المناخ، والآثار المدمرة لاضطرابات سوق الوقود التقليدي على قطاعات الغذاء والزراعة والصناعة لاسيما في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن هناك آراء تربط بين التوجهات نحو الطاقة الخضراء وسعي الغرب وراء موارد القارة الأفريقية.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن البرلمان الأوروبي صوت مؤخرا لحظر بيع السيارات الجديدة التي تستخدم البنزين أو الديزل اعتبارا من عام 2035، وهي الخطوة التي حال موافقة الاتحاد الأوروبي عليها سوف تحدث ثورة في ثالث أكبر سوق للسيارات في العالم بعد الصين والولايات المتحدة، مع تسريع التحول العالمي في صناعة السيارات إلى ما يعرف باسم "تكنولوجيا البطاريات".
وأشارت المجلة إلى أن ما لم يذكره البرلمانيون الأوروبيون هو كيفية تقليل استخدام المعادن النادرة أو كميات المعادن التي تحتاج إليها صناعة بطاريات المركبات الكهربائية لاسيما الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنجنيز والبلاديوم وغيرها، معتبرة أن السر الذي وصفته بـ "القذر" للثورة الخضراء يكمن في التعطش الشديد للموارد في القارة الإفريقية والأماكن الأخرى التي يتم إنتاجها باستخدام بعض من أسوأ التقنيات في العالم.
وأضافت المجلة أن التحول المتسارع إلى البطاريات يهدد بتكرار واحدة من أكثر الديناميكيات تدميرا في تاريخ الاقتصاد العالمي، والمتمثلة في الاستخراج المنهجي للخامات من جنوب الكرة الأرضية بطريقة جعلت البلدان المتقدمة غنية بشكل لا يمكن تصوره بينما تترك أثرا من التدهور البيئي، وانتهاكات حقوق الإنسان، والتخلف شبه الدائم في جميع أنحاء العالم النامي.
وفي حين حاولت بعض الدول عكس هذا الاتجاه بفرضها لحظر على صادرات بعض الخامات المهمة أو محاولة إضافة قيمة إلى احتياطياتها، مثل إندونيسيا التي حظرت تصدير النيكل الخام وبوليفيا التي حاولت إضافة قيمة إلى احتياطياتها من الليثيوم، إلا أن النتائج المرجوة من مثل هذه الإجراءات جاءت باهتة حتى الآن.
ونظرا لأن معادن البطاريات تكتسب أهمية استراتيجية من نواح كثيرة مماثلة للدور المحوري الذي لعبه النفط لفترة طويلة، فسيكون من الصعب جدا على البلدان النامية التي لديها موارد كبيرة الحفاظ على مسارات التنمية الخاصة بها بعيدا عن تدخلات وتأثيرات الجغرافيا السياسية.
وتعد جمهورية الكونغو الديمقراطية مثالا بارزا على هذه المشكلة، حيث تمتلك أكبر احتياطيات معروفة من الكوبالت في العالم، وهو معدن مهم للغاية للتحول الأخضر، حيث إن بطاريات المركبات الكهربائية المنتجة من الكوبالت تتيح مسافات قيادة أطول، وهو ما وضع هذه الدولة رهينة لتكرار مسألة "اقتصاد استخراج الموارد" في الحقبة الاستعمارية، وتعريضها لخطر التخلف الدائم.
ولفتت "فورين بوليسي" إلى أن الصين، التي أعلنت حكومتها في وقت مبكر بطاريات السيارات الكهربائية وسلاسل التوريد الخاصة بها صناعة استراتيجية، بدأت في عام 2016، عندما كان سعر الكوبالت منخفضا نسبيا، في التحرك بشكل مبكر، حيث اشترت شركة التعدين العملاقة China Molybdenum أحد أكبر مناجم الكوبالت في العالم، Tenke Fungurume، الواقع جنوب شرقي الكونغو الديمقراطية، من شركة Freeport-McMoRan الأمريكية.
وأصبحت الشركات الصينية اليوم تسيطر على 60 في المئة من احتياطيات الكوبالت العالمية و80 في المئة من قدرة تنقية الكوبالت في العالم، الأمر الذي ساعد الصين على تأمين ريادة كبيرة كصانع للبطاريات الكهربائية، حيث تسيطر شركة صينية واحدة وهي شركة CATL، على ثلث سوق البطاريات العالمي بأكمله.
وأثار استهداف الصين للبطاريات كجزء من تخطيطها الصناعي الاستراتيجي القلق في الولايات المتحدة، ففي مايو الماضي، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" عن خطة بقيمة 3 مليارات دولار لتعزيز الإنتاج المحلي لبطاريات السيارات الكهربائية، ولكن لكي تنجح أية محاولة لانتزاع جزء أكبر من سلسلة إمداد البطاريات من الصين، سيحتاج المصنعون الأمريكيون إلى وصول أكبر إلى المعادن مثل الكوبالت، وهو ما يضع الكونغو الديمقراطية -والأنشطة الصينية هناك- في مرمى نيران واشنطن.
وحيث إن الكونغو الديمقراطية ليست دولة إفريقية عادية، بسبب مساحتها وموقعها غير الساحلي تقريبا في وسط إفريقيا، وضعف الوصول إلى محاور النقل، لذا فإن القضية الرئيسية هي البنية التحتية العابرة للحدود مثل السكك الحديدية والوصول إلى الموانئ البحرية، كما أن ندرة هذه البنية التحتية في معظم أنحاء إفريقيا تعني أن الجهود المبذولة لدمج اقتصادات القارة لم تنطلق أبدا رغم هذا الكم من الثروات.
وقامت كيانات صينية بتمويل وبناء البنية التحتية لسكك حديدية وموانئ بالقارة الأفريقية، حيث قدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (الأمريكي) في دراسة عام 2019 أن 46 ميناء إفريقيا تم بناؤها أو توسيعها أو تشغيلها من قبل كيانات صينية.
ونظرا لأن العديد من الكيانات الصينية ذات المصالح التجارية والسياسية المختلفة تركز على ربط مناطق إنتاج الموارد بالبحر لشحنها إلى الصين، فإن الأمر ربما سينتهي – وفقا لفورين بوليسي - إلى تكرار اقتصاد استخراج الموارد في الحقبة الاستعمارية، وهو وضع يضع بلد مثل الكونغو الديمقراطية لخطر البقاء عالقا في تخلف دائم.
ويرى البعض أن المشاكل التي ظهرت مؤخرا بين الصينيين والكونغوليين، حول التباطؤ في مشروعات الخدمة المجتمعية والتنمية المرتبطة بأنشطة التعدين، تعد فرصة للشركات الغربية لإزاحة منافسيها الصينيين من خلال إبرام صفقات مع الكونغو الديمقراطية تركز بشكل أكبر على التنمية.
ولكن حتى لو واجهت الصين منافسة أكبر لمصالحها في الكونغو الديمقراطية، فإن هذا لا يضمن فوائد أكبر للمواطنين هناك، أو في أي مكان مماثل، خاصة وأن الغرب لم يكن أفضل بشكل واضح من الصين، فالشركات الغربية العملاقة العاملة في الكونغو الديمقراطية لديها سجل طويل ومستمر من انتهاكات حقوق الإنسان والفساد.
وترى المجلة الأمريكية أن "الكأس المقدسة للتنمية الاقتصادية لأفريقيا" تتمثل في بناء قاعدة التصنيع الخاصة بها إذا لزم الأمر، مع النقل القسري للملكية الفكرية، بحيث لا تستخرج الشركات المعادن وتنقيها فحسب، بل تنقل سلسلة توريد البطاريات بأكملها إلى هذه الدول، وإن كان هذا حلم بعيد المنال في الوقت الحالي لأسباب من بينها أن التصنيع يتطلب إمدادا ثابتا بالكهرباء، وهو أمر صعب المنال في دول مثل الكونغو الديمقراطية.
وفي نهاية المطاف، فإن السباق بين واشنطن وبكين للحصول على الخامات الأساسية لبطاريات السيارات الكهربائية ليس مجرد سباق بين الصين والولايات المتحدة، ولكن بين الشمال والجنوب، ولكي يستفيد الجنوب (أفريقيا) بطريقة واسعة النطاق وشاملة من ثروته المعدنية الهائلة - الموارد التي أصبحت وجودية لسياسة المناخ- يجب أن تكون هناك تغييرات هائلة في سلاسل التوريد العالمية والعلاقات الاقتصادية؛ بما يصب في صالح الجميع، وإن كان الأمر لا يميل حاليا نحو ذلك!