(وقائع تثير الدهشة وتدعونا لمناقشة الأمر بجدية)
في شهر ديسمبر عام 1966 اجتمع الدكتور ( ثروت عكاشة ) وزير الثقافة اجتماعين كبيرين برجال المسرح في )مسرح الجمهورية ( وقدم تقريرا عن حالة المسرح المصري خلال السنتين الأخيرتين – 64-65 وطرح للمناقشة وسائل الإصلاح.
وحين أستدعي هذا الحدث الآن - وبعد مرور أكثر من خمسين عاما - استحضره استجلاء لمجموعة من الوقائع الهامة ومنها :
أن وزير الثقافة، والذي كان - في الوقت نفسه - نائبا لرئيس الوزراء المهندس (صدقي سليمان) ، هو الذي قدم بنفسه تقريرا ليعرضه علي المسرحيين، وليس العكس، ودعم تقريره بأرقام كاشفة، وحطم السور الذي يمكن أن يحجب المسئول الكبير عن القاعدة التي يهمها الأمر، وأعني بها هنا ( المسرحيون).
بالإضافة إلى أن القيادة السياسية - نفسها- ممثلة في ( جمال عبد الناصر ) رئيس البلاد، لفت نظرها ، ما يحدث في الواقع الثقافي من تردي، خاصة في مجال المسرح، الأمر الذي دعي ( عبد الناصر) لاستدعاء ( ثروت عكاشة ) في شهر يونيه عام 1966 طالبا منه قبول منصب وزير الثقافة، ذلك المنصب الذي استقال منه عام 1962 وبعد أن تولاه عام 1958.
هنا أدرك ( جمال عبد الناصر ) أن خطرا سيعوق مسيرة الثقافة في مصر، وكان مؤمنا من قبل بترجيح سياسة الكم علي كفة الكيف، لكنه اكتشف، خطأ تلك السياسة، والمُدهش أنه اكتشفها، حين كتب الدكتور( لويس عوض ) مقالا نشره في الأهرام يوم 30 أبريل عام 1960 تحدث فيه عن خطأ تلك السياسة، لأنها ( أسفرت عن نتائج ضارة بالثقافة، وبمال الدولة ) وقدم الرئيس لثروت عكاشة، قصاصات من المقالات التي كتبها ( لويس عوض ) في هذا الشأن،طالبا منه الاطلاع عليها، واتخاذ اللازم في ضوء ما جاء فيها.
وقبل أن أتعرض لما جاء في التقرير المذكور، أود الإشارة إلي شيئين أولهما: ما ذكره (ثروت عكاشة ) بنفسه، بشأن واقعة استدعائه، للقيام بتصحيح مسار الثقافة في مصر. يقول ( حين استدعاني جمال عبد الناصر في شهر يونيه عام 1966 عارضا على منصب وزير الثقافة، سألته وقد غلبتني الدهشة، عن دوافع هذا الأمر المفاجئ، وإذا هو يفضي إلى بأنه ضائق كل الضيق بما دخل علي الحقل الثقافي من جدب، وما نالته مشروعاتي الثقافية من هدم وإهمال وتخريب، وكشف لي عن أنه قد عدل عن ترجيح كفة الكم علي كفة الكيف في مجال الثقافة، وأنه بات يري إجراء تغيير عاجل، لأن تطبيق سياسة الكم قد أسفر عن نتائج ضارة بالثقافة وبمال الدولة، غير أنه سرعان ما أرتد يتدارك ما سبق به لسانه وإذا هو يقول " لست أعني بذلك تضييق الرقعة الثقافية، ولا النظر إلى الكيف وحده، بل أعني أن تكون ثمة موازنة بين الكيف والكم، حتى لا يطغي أحدهما علي الآخر ".
بعدها قدم له قصاصات مقالات (لويس عوض).
هذا الذي ذكره ( ثروت عكاشة ) في مذكراته، يكشف لنا وعي القيادة السياسة، بأهمية الثقافة في تشكيل الوجدان، وأهميتها في بناء مصر الجديدة ، وهذا ما سعت إليه ثورة يوليو1952، وان كان سعيها قد انحرف بعد هزيمة 1967 وموت عبد الناصر.
والشيء الثاني الذي أود الإشارة إليه هو ما ذكره د. لويس عوض عن أحوال المسرح المصري، في المقال الذي قرأه ( جمال عبد الناصر ) ودفع بقصاصته إلي ( ثروت عكاشة ) طالبا منه إصلاح ما فسد، في ضوء ما ذكره كاتب المقال.
وبالرجوع إلي المقال المنشور في صحيفة الأهرام بتاريخ 30 أبريل 1965
تتبين لنا بعض الحقائق التي أشار إليها د.) لويس عوض ) مدعما كلامه بالأرقام، والبيانات والأدلة، محددا في البداية أن الموسم المسرحي لعام 1964-1965 موسم غير موفق، وفاشل – علي حد تعبيره – إذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها، والآن ما هي مظاهر ذلك الفشل ؟!
لقد قام برصد الظواهر التي أنجلي عنها الموسم المسرحي من خلال المسارح الستة ( القومي - العالمي - الجيب- الحكيم - الحديث - الكوميدي) وذكر أن (المسرح القومي) أنتج خمس مسرحيات جديدة، كلها - علي حد تعبيره - من الدرجة الثانية، ومن الدرجة الثالثة وهي ( سكة السلامة لسعد الدين وهبة – شمس النهار لتوفيق الحكيم - الذباب لسارتر- طيور الحب لعبد الله الطوخي - الحلم لمحمد سالم ) والمسرحيتان الأخيرتان من بواكير إنتاج المؤلفين في المسرح، ولم يؤيد تقديمها علي (القومي ) بسبب تعدد المسارح، وكان هذا الإجراء مقبولا في ظل وجود مسرح واحد هو (المسرح القومي ) ولكن مع التعدد لا ينبغي أن يمضي (القومي) في المجازفة بتبني المواهب الناشئة، لأن الأصل في المسرح القومي، أنه مسرح الدولة الأول الذي يضطلع بحماية " التراث المسرحي" وحين يُصبح الجديد تراثا، فلا مناص من انتقاله إلي المسرح القومي، وذكر أن(المسرح القومي ) قدم في الموسم الماضي أي 1963 تسع نصوص، وفي موسم 1964 نقص عدد عروضه النصف تقريبا، مع خلوه من لمعان العام الماضي، الذي عرضت فيه مسرحيات ( كوبري الناموس – حلاق بغداد- رحلة خارج السور - الخبر - الفرافير - تاجر البندقية - الخال فانيا - مشهد من الجسر ) ثم أشار إلي ظاهرة أخري تتعلق بتبديد مواهب كبار الفنانين، حين شاركوا في أعمال ضعيفة، وذكر في مقاله بيانات العروض في المسارح الأخرى ( الجيب ) ثلاث مسرحيات – والعالمي ( سبعة عروض ) وأشار إلى تشابه ما يقدمه المسرح العالمي، مع ما يقدمه المسرح القومي، فهما يتصديان لعرض التراث الإنساني، في كل العصور، بما في ذلك المسرح المعاصر.
والمدهش في كلام د. لويس عوض، انتقاده لمسألة تقديم عروض كثيرة تجاوزت عشرة عروض في (العالمي ) مما أدي إلي التعجل وعدم الإتقان، وأعتبر ذلك تبديدا لأموال الدولة في أعمال خاسرة.
وأود هنا أن أذكر لكم أسماء تلك المسرحيات، التي اعتبرها خاسرة وهي ( الحيوانات الزجاجية – هاملت – الخرتيت – الجياع ومصير صرصار لتوفيق الحكيم وشلة الأنس لمصطفي محمود وخيال الظل لرشاد رشدي والحصار لميخائيل رومان ) تلك المسرحيات العظيمة، رآها (لويس عوض ) مسرحيات ضعيفة، خاصة المترجم منها بسبب سوء الترجمة.. وأشار -أيضا - في مقاله، إلي العروض التي قدمتها المسارح الأخرى ( الحديث - الكوميدي) وهي عروض متنوعة، لكنه كان يبحث عن الكيف، وليس الكم.
ولذلك نراه يخلص إلى عدة نتائج: منها ضمور المسرح القومي ومسرح الجيب، كما وكيفا، وتوسع المسارح الأخرى كما مع ضمورها كيفا، وانصراف الجمهور عن الفن المسرحي حتى في مجال التسلية.. ووضع في متن مقالته روشته لعلاج أحوال المسرح المصري، في ثمان نقاط.. أذكر أهمها هنا: وضع سياسة جديدة تستهدف فصل فن التسلية عن الفن الجاد فصلا باتا، ووضع سياسة تتوخي إقامة توازن حقيقي بين الكم والكيف، فضلا عن ضرورة إعادة تنظيم الرصيد البشري والإمكانيات الفنية التي نملكها، بحيث نتمكن بها من بلوغ أرفع مستوي ممكن.
وأقول: إن هذا الذي ذكره د. لويس عوض، واعتبره تراجعا للمسرح المصري، وفشلا.. ذكره، مع كل هذا الإنتاج، الذي نراه اليوم متميزا، بالمقارنة بواقعنا، فضلا عن أننا اليوم لا نستطيع تقديم أكثر من ثلاثة عروض لكل مسرح، وأحيانا لا نستطيع تقديم أكثر من عرض واحد، كما حدث مع المسرح القومي، الذي هو مسرح الدولة الرسمي. هذا فضلا عن تداخل الاختصاصات بين المسارح، وتشابه النوعية، وتهافت وضعف معظم العروض، ومقال (لويس عوض ) القديم، يكشف لنا دور النقد الغائب عن حياتنا المسرحية اليوم، ذلك الغياب الذي أدي إلى ما نحن عليه من ضعف، مع غياب الكم، والكيف معا، في الوقت الذي كان النقد يوجه ضد الكم، الذي جاء علي حساب الكيف، ومع أعمال كبيرة لمؤلفين كبار، ولم تكن ظاهرة التدخل السافر في النصوص المؤلفة، قد حدث، ولو لمرة واحدة مع نص مسرحي واحد، كما يحدث الآن.. غياب النقد الحقيقي المواكب هو ما أدي إلى ما نحن عليه الآن، ووجود البديل الانطباعي الصحفي، المُجامل، جاء علي حساب القيمة، وحساب كل شيء، والسؤال: ماذا كان سيكتب د. (لويس عوض ) ومن معه من نقادنا الكبار، لو أنهم عاصروا مسرحنا الآن !!
هذا السؤال أطرحه لكي أؤكد علي أن العودة إلى قراءة الماضي القريب وليس البعيد، أمر ضروري لتوضيح الصورة التي نحن عليها، بحثا عن استقامة الأمر وتعديل مسار الحاضر، استشرافا لآفاق المستقبل. لو كان الأمر يهُمنا بالفعل.
والآن: إلي التقرير الذي أعده ( ثروت عكاشة ) وقام بعرضه أمام رجال المسرح الذين غص بهم ( مسرح الجمهورية ) يومي الأربعاء والخميس 7و8 من ديسمبر 1966، أي بعد تكليف ( جمال عبد الناصر ) له بخمسة شهور، كان التقرير مُدعما بالأرقام عن حالة المسرح المصري خلال الموسمين ( 64/65 – 65/66 ) ثم طرح للمناقشة وسائل الإصلاح، وكان من بين الحضور د. لويس عوض، صاحب المقال، والذي كتب عن ذلك الاجتماع، مقالا نشره في صحيفة الأهرام في عددها الصادر في 16 ديسمبر 1966.
ذكر ( ثروت عكاشة ) أن المسرح في أزمة، وأن مصدر هذه الأزمة، أن مصر توسعت في حياتها المسرحية توسعا كميا مُبالغا فيه، فوزارة الثقافة غدت تمول سبعة عشر مسرحا أو وجها من وجوه النشاط المسرحي هي: القومي - العالمي - الحديث - الكوميدي - الجيب - العرائس- مسرح الأطفال - مسرح الرقص علي الجليد – السيرك القومي – فرقة القاهرة الاستعراضية – فرقة رضا – الفرقة القومية للفنون الشعبية – الفرقة الاستعراضية الغنائية – اوركسترا القاهرة السيمفوني – مواسم الأوبرا والكورال ) وذكر أنه من الواضح في هذه القائمة، التشابه في نفس الوظائف، بما لا يُبرر تعدد هذه المسارح والفرق.. وقدم في تقريره بيانا كاملا، بالمصروفات والإيرادات، لكل مسرح علي حدة، وأهم ما أستند إليه التقرير هو طغيان الكم علي الكيف، فقدم اقتراحا يقوم علي الأخذ بمبدأ قليل جيد خير من كثير رديء، والتوسل إلى ذلك باستمرار عرض الأعمال الجيدة، والأخذ بنظام (الريبرتوار ) ورفض كل توسع غير مسنود فنيا وثقافيا وماليا، كما عرض اقتراح دمج المسارح المتشابهة في الوظيفة، ونادي بضرورة تغذية المحافظات بفن العاصمة.
يتبين لنا - إذن - أن ( ثروت عكاشة ) طرح رؤيته، وترك المسرحيون يناقشون، ويقدمون الحلول، بما يكشف أن أي تطوير، تقع مسؤوليته علي المسرحيين، ولا أحد غيرهم ، وليس الوزير، لأن الوزير ما هو إلا الجهة التنفيذية، التي تتبني المشاريع، وتدعمها، وتسهل أمامها سبل الانتشار.. وتلك هي قضيتنا الآن.
إن المأزق الذي وقعنا فيه، صنعناه بأيدينا حين تخلينا عن وضع التصورات المتعلقة بالتطوير والإصلاح ، تمسكا بالمكاسب الشخصية، وضعف أداء بعض القيادات التي لا يهمها أمر مسرحنا في شيء، والوقائع كثيرة تشهد علي ذلك.