رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في محبة.. مدحت منير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


يداعب أغلفة دواوينه كمن يلعب مع أطفاله، القصيدة أو النص - كما نقول الآن - ليس حشوا زائدا لاستكمال طباعة كتاب، ظاهرة مكتملة الأركان اسمها مدحت منير، يتجلى رضاه عن نفسه إذا ما أنصت إليه مستمع جاد، أو إذا تلقى اتصالا على التليفون يخبره أن ساره أو ماري بخير.
أعرف مدحت منير منذ عشرات السنين ولا أعرف مفاتيح الكتابة عنه، فهو وقد ذكرت ذلك في أمسية لتكريمه متعدد ومتنوع ويخطىء من يحاصره في ساحة الشعر كمجدد ورائد لمدرسة متميزه في شعر العامية.
هذا التعدد الذي أراه في مدحت منير ترسخ لدي بفعل السنوات الطوال، تعارفنا منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي ونحن الآن نسرع الخطى في عشرية ثالثة من القرن العشرين، إذن هو العمر على امتداده لذلك سوف تتقاطع معنا أحداث كثيرة مشتركة وبالرغم من ذلك سوف أحاول جاهدا التركيز على رحلة منير حتى اسدد جزءا من ديوني له.
قبل أن نعرف طباعة الدواوين كانت مجلات الماستر وكانت كتيبة مسلحة بالوعي والموهبة قد اجتمعت في بيت ثقافة الشيخ زايد وكان حصادهم عدد من الندوات وأعداد مهمة من مجلة متخصصة اسمها "الشباك"، حفرت تلك المجموعة نهرا صغيرا في صحراء وسرعان ما انهالت المعاول لردم النهر، وكانت التهمة التغريد خارج السرب في الفن والسياسة، كان مدحت منير معهم هناك، ينشد بهمسه الصاخب عن "نور السلم" و"تفجير الرمان"  وقلبه الذي اراد له ان يكون "ذوريعة" لكي يبات فيصبح خضار.
نفس جديد وذائقة جديدة، بل وقاموس لغوي جديد بسيط وناصع، لا يتعالى ولا يرفض ما أنتجه شعراء جيله وكان الغالب في إنتاجهم اللغة الواضحة والوطنيات، مدحت لم يغادرهم ولكنه ابتكر لنفسه زوايا جديدة للرؤية "استخبى في دولاب الهدوم من القنبلة الذرية"، إذن هو لا يصدق إلا ما يعرفه، ولا يكتب إلا كما يفكر ويتكلم. 
الصورة الجديدة المبتكرة هي الهاجس الآول عند مدحت في قصائده الأولى "من شظية جابت الفرس نصين" … وصولا إلى "دوري معايا رصاصة تاهت في جسمي"،  الإيمان بالصورة هوالتعبير العملي عند منير بأن الشعر هو المجاز وهو العالم الموازي بجماليات تغوص في الروح وتنتقل بالمتابع من حالة إلى حالة فلا يفيق المستمع إلا على صوته هو نفسه هاتفا "الله".
مع ميلاد الدهشة يتنفس منير الهواء النقي ويذهب بعيدا لاصطياد لحظة أخرى، منير مواليد 27 يناير 1961 بمدينة القنطرة شرق، ومدرس الفيزياء طوال حياته يعيش الآن راضيا لأن الوظيفة التي كبلته انتهت بخروجه على المعاش، ولأن ماري وسارة نجحتا في الانتهاء من التعليم الجامعي وتعيشان صفحة جديدة في حياتهن.
ومن الميلاد إلى لحظة النطق بالإحالة إلى المعاش جرت مياه كثيرة في النهر، كانت ندوة الشباك التي أشرنا إليها في البداية مجرد محطة من المحطات المتكررة
هياها بلدنا وهياها الأمارة 
لكنها تبدو لركاب القطار
محطة
في الثمانينات وما أدراك ما الثمانينيات، مدحت طالب في كلية العلوم بجامعة قناة السويس زميلا للراحل محمد عبدالوهاب المعجون بالسياسة والفن والمغامرة، الراهب الاشتراكي في مدينة بلا قلب، لم يكن منير وعبدالوهاب ثنائي يتيم ولكن كعادة اليسار الجميل تولد حلقة مشاغبة في الجامعة الهادئة تضم إلى جانبهما حمدي جمعة ومحمد عبدالفتاح وفريد حنا وغيرهم، لكن منير لا يقع في فخ السياسة المباشر بل يدور حوله مغنيا أشعاره المنحازة اجتماعيا والمكتوبة بعناية وشاعرية بعيدة عن الطنطنة والمباشرة، يختار طريقه بوعي شاعر مكتمل غير منفصل عن هموم وطنه وشعبه.
ولأن منير محظوظ البداية تصادف انه في سنوات معدودات تتأسس الحلقة الثالثة والتي كانت أكثر تنظيما واقصد بها حلقة التأسيس الثاني لحزب التجمع في الاسماعيلية (تجربة محمد حلمي ومحمد ربيع)، بصمة مؤثرة هنا حيث انتبهت مجلة أدب ونقد ذائعة الصيت جيدة السمعة إلى موهبة شاعرنا الكبير مدحت منير لتبدأ قصائده في الخروج من شرنقة الإسماعيلية إلى فضاء القاهرة، لم يكن الأمر بمثل هذه البساطة التي اكتب بها، ولكن قصيدة منير المكتوبة بتعب وجدية وموهبة كانت هي جواز السفر القادر على التخطي للأمام.
قلت أن منير الثمانينات حتى كتابة هذه السطور يعتز بكونه الشاعر المنتمي أو كما قال جرامشي المثقف العضوي، وينطبق عليه ما قاله عمنا بيرم التونسي " إن كان على الملح أكلنا.. وإن كان على السجن دخلنا.. والصوم نحلناه.. ونحلنا".
التقي مع منير لقاءات متناثرة سواء في نادي أدباء الإسماعيلية أو في نادي المنتزة حيث المقر المؤقت لأنشطة قصر ثقافة الإسماعيلية والتي توجت باستضافة يوسف ادريس، لقاءات يشير كل منا للآخر من على بعد مترين حتى جاءت انتخابات مجلس الشعب 1986.. وقتها لم نمتلك رفاهية المثقف التي تقوم على التوجيه وكتابة روشتة الخروج، لم يكن امامنا إلا القفز بكامل ملابسنا في طين السياسة ربما ننجح في سد ثغرة من ثغرات نزيف البلاد، يذهب منير إلى القنطرة شرق وحده مندوبا للحزب ومراقبا للانتخابات بينما يذهب بي اسمي في جدول الناخبين إلى مدرسة السادات بعرايشية مصر، هنا بالتحديد بدأت خطوات كثيرة مشتركة تتحرك نحو الأمام.
مدحت في مغامرة غير محسوبة يسافر إلى بعثة في موسكو يرافقه فيها صديقنا الصحفي والباحث المرموق عبدالرحيم علي رئيس مجلس إدارة مؤسسة البوابة،  وأنا أغادر نحو القاهرة صحفيا أبحث عن الإحتراف مهنيا.
ويبقى السؤال في ذهني قائما.. ما الذي يدفع شاعر بوزن مدحت منير نحو هدف الاكتمال من خلال التنوع ؟ الجهد المطلوب لتحقيق ذلك يفوق طاقة البشر، ألا تكفيه تعقيدات القصيدة وهموم الكتابة الجديدة فيذهب بكامل إرادته نحو انحيازه الإجتماعي منتظما في أنشطة ومعارك وطنية وبدفع الثمن راضيا.
من مطاردات المباحث وبدروم أمن الدولة في الإسماعيلية إلى أرقى المنصات الشعرية ليشدو لنا شعرا صافيا كما روحه، ومغامرا في السطر الشعري كما إرادته التي لا تخشع لقالب محدد سلفا، عندما استنفذت الموسيقى وظيفتها في القصيدة، كان لابد من مسار جديد وجماليات طازجة ومبتكرة حتى تنمو للقصائد أجنحة، يدخل منير المغامرة مبكرا، وينسحب بهدوء من ميدان العامية الواسع ليدخل بكامل وعيه وموهبته إلى حارة ضيقة يحرث في أرضها شكل جديد، داعيا واضح إلى جماليات مختلفة واكتشافات براح النثر ودقة تفاصيله.. تماما كما جواهرجي يدق على خامة صغيرة يشعل فيها النار مرة ثم يأخذها بالمحايلة مرات.
مدحت منير صاحب تجارب متنوعة في السيطرة على النص، ربما يرجع تنوع تلك التجارب لأنه يشتبك مع النص وكأنه يلعب وإذا انتهت المباراة بمتعة اللاعب، كسب القارئ نصا جديدا يعيش معه متنوع التأويل.
لن أرصد في مقالي هذا المكتوب على عجالة نماذج من نصوصه الأخيرة وسوف أكتفي برصد ما جادت به المطابع احتفالا ب مدحت منير..
أول الغيث كان ديوان  بعنوان ( مكان مريح للحزن ) صدر عن سلسة إبداعات – الهيئة العامة لقصور الثقافة- 1997، ثم تلاه بديوان اسمه ( عنف ومحبة ) صادر عن مهرجان القراءة للجميع – مكتبة الأسرة – الهيئة العامة للكتاب - 2004.
ويتجه للنشر الخاص وعن دار ميريت نقرأ له في عام 2008 ديوان بعنوان (كان لازم نرقصها سوا) ثم عن سلسلة مختارات 
الهيئة العامة لقصور الثقافة نقرأ له عام 2015 ديوان (واعملى بتحضنينى) ثم ديوان بعنوان ( بالقميص الكاروهات) - الهيئة العامة للكتاب - 2016 ويأتي بعدهم ديوان (كأنى الساكن الأصلى) عن سلسلة أصوات - الهيئة العامة لقصور الثقافة - 2020.
مدحت منير هذا مقال في محبتك، وهذه الكتابة هي دعوة للمهتمين بالشعر ليقولوا معي بأننا سعداء الحظ لأننا عشنا زمن مدحت منير