باتت منطقة القرن الأفريقي، هدفا للقوى الكبرى منذ أمد بعيدا، نظرا لأهميتها الجغرافية بحكم إطلالها على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وقربها من مضيق باب المندب المتحكم في البحر الأحمر من ناحية الجنوب، وما تمثله تلك الممرات البحرية من أهمية استراتيجية وأمنية في حفظ الأمن الإقليمي والعالمي، إلى جانب تمتعها بثروات طبيعية، لذا تضاعف الاهتمام الدولي بها خلال الآونة الأخيرة.
ومن هذا المنطلق، كان التوجه الصيني إلى شرق أفريقيا، واحتلالها مرتبة متقدمة في أولويات سياستها الخارجية، نظرا لأهميتها في تنفيذ مبادرة «الحزام والطريق»، وتنفيذه مشروعات ضخمة في دول القرن خاصة إثيوبيا، التي تدين للصين بما لا يقل عن 13.7 مليار دولار، وفقا لمعهد السلام الأمريكي، وتبلورت أهمية شرق القارة السمراء بالنسبة للعملاق الأسيوي، بعدما أقامت بكين أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي عام 2017.
مؤتمر القرن الأفريقي والصين
وفي فبراير من العام الجاري، عينت الصين مبعوثا خاصا لها إلى القرن الأفريقي هو شيويه بينج، والذي بدأ عمله خلال الأشهر القليلة الماضية، وتمخض عنه تنظيم أول مؤتمر يجمع دول القرن انعقد يومي 20 و21 يونيو الجاري، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وبعدما كان يقتصر التواجد الصيني على الاقتصاد والاستثمار وإقامة المشاريع، انتقل العملاق الآسيوي إلى مربع السياسة والأمن ودبلوماسية الأزمات، في علاقته مع دول شرق أفريقيا.
عقد المؤتمر بمشاركة مسئولين من إثيوبيا، وجيبوتي، وكينيا، والصومال، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا، بينما غابت إريتريا.
تمحورت أهداف الصين من جمع دول شرق أفريقيا في مبادرة تشمل عدة أوجه ما بين الاقتصادي والسياسي والأمني، أبرزها توحيد عملة الدول التي ستنضوي تحت «اتحاد دول القرن الأفريقي»، وإعفاء من رسوم التأشيرات بينها، وإنشاء خطوط سكة حديد ومواصلات تربط بين عواصم هذه الدول إلى جانب تفعيل التجارة والتعاون الاقتصادي بدعم مباشر من الحكومة الصينية.
وقال «بينج»" إن الصين تفعل الكثير لدعم القرن الأفريقي، مضيفا نحن على استعداد لتقديم جهود الوساطة للتسوية السلمية للنزاعات على أساس إرادة الدول في هذه المنطقة.
فخ الصين لأفريقيا
تحدثت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، في تقرير لها منتصف الأسبوع الماضي، عن المؤتمر قالت فيه إن الولايات المتحدة ترى أن الصين لا تسعى إلى حل النزاعات الأفريقية، ولكن إلى تعزيز الأنظمة الاستبدادية وتوسيع بصمتها الأمنية عبر القارة، وقد حذرت مرارًا وتكرارًا من أن قروض بكين للدول الأفريقية تأتي بشروط، ترقى إلى مستوى «دبلوماسية فخ الديون»، وتبذل إدارة بايدن جهودا كبيرة لإقناع غينيا الاستوائية في وسط إفريقيا برفض محاولة الصين بناء قاعدة عسكرية على ساحل المحيط الأطلسي في البلاد.
وأضافت «وول ستريت جورنال» أن مؤتمر الصين يأتي لتعزيز الوضع الراهن بدلا من التوسط في عمليات سلام هادفة، لا توجد خطة ملموسة تعالج العديد من خطوط الصدع الوطنية والعابرة للحدود التي تضع ضغوطًا هائلة على المنطقة.
تطرق البيان الختامي للقمة التي عقدت في أديس أبابا إلى ضرورة اتخاذ تدابير بناء الثقة، وإدارة الخلافات لتهدئة الوضع الأمني في دول المنطقة.
وتموج منطقة القرن بصراعات مسلحة أبرزها الحرب في إثيوبيا وإرهاب حركة الشباب في الصومال، ونذر حرب جديدة بين تيجراي وإريتريا، بالإضافة إلى أزمة السد الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق ويهدد دولتي المصب مصر والسودان بالعطش.
كما أكد المشاركون في بيانهم على التمسك برؤية مشتركة وشاملة وتعاونية وأمن للحفاظ على السلام والأمن في المنطقة وبناء منطقة يتم فيها إسكات البنادق من أجل السلام المستدام.
وأشار إلى ضرورة احترام سيادة كل طرف ووحدة أراضيه واحترام اختيار الدول المستقل لمسار التنمية والقيم والأنظمة الاجتماعية، كما دعا الأطراف المجتمع الدولي إلى تعزيز الشراكة مع القرن الأفريقي للتعاون بشأن الاحتياجات التي حددتها دول المنطقة للمساعدة الإنمائية، وزيادة إمكانية الوصول إلى تمويل التنمية وتنوعه، وتقديم مساهمات أكبر للتنمية المستقلة والمستدامة في أفريقيا.
نزاعات القرن الأفريقي
وبعد نهاية المؤتمر، قال المبعوث الصيني الخاص إن المشاورات التي جرت مع ممثلي سبع من دول المنطقة الثماني، لم نناقش نزاعًا أو خلافًا بعينه، منوها إلى عدم التطرق للنزاع المسلح الذي يدور في إقليم تيجراي بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي، مضيفا إحدى مسئولياتي هي التوسط في كل أنواع النزاعات، لكن هناك شرط: يجب على الأطراف المعنية أن توافق على ذلك نحن نحترم في المقام الأول كل وجهات نظر الأطراف المعنية.
والنجاح في جمع الفرقاء في القرن الأفريقي ليس بالأمر اليسير، في ظل الصراعات الدائمة والعرقيات المتعددة، وفي هذا السياق، تحدث لوكاس فيالا، دكتور الاقتصاد في جامعة لندن والخبير في الشئون الصينية، قائلا بينما قد تكون الصين قادرة على استخدام نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي لتهيئة طاولة المفاوضات من خلال إقناع الأطراف الإقليمية بالمشاركة في المحادثات، امتنعت بكين عادة عن وضع جدول الأعمال، انطلاقًا من مشاركة الصين السابقة في المنطقة، على سبيل المثال في جنوب السودان، ومن المحتمل أن تواجه مبادرة بكين عقبات في تسوية القضايا الإقليمية. ويرجع ذلك في الغالب إلى أن وضع جدول الأعمال يعتمد على رغبة شركاء الصين الأفارقة.
وأضاف «فيالا» في مقال له بموقع «تشاينا جلوبال ثاوث بروجكت» أنه من المؤكد أن وجود قرن أكثر سلاما واستقرارا هو في مصلحة الجميع، وتعكس التهديدات العابرة للحدود الذي تشكله حركة الشباب في الصومال، والتوترات العرقية والسياسية المستمرة في إثيوبيا الحاجة إلى حلول جديدة ومبتكرة لقضايا الأمن الإقليمي. لطالما كانت الصين محركًا للنمو الاقتصادي الإقليمي، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكانها أن تكون أيضًا ضامنًا للأمن الإقليمي.
غياب إريتريا "المفسد"
وحينما سئل المبعوث الصيني الخاص شيويه بينج عن سبب غياب إريتريا عن المؤتمر، كانت الإجابة أن أسمرة أعلنت وجود "مشكلات فنية" تمنع حضورهم المؤتمر، ولكن يبدو أن الخلافات الأخيرة بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والرئيس الإريتري أسياسي أفورقي، حالت دون تلبية الأخيرة الدعوة الصينية لحضور المؤتمر في أديس أبابا التي عانى فيها مواطنو إريتريا من ملاحقة الأمن الإثيوبي لهم خلال الأشهر القليلة الماضية.
وفي تقرير لصحيفة «ساوث تشاينا» قالت إنه إذا اضطلعت بكين بدور الوسيط، فمن المحتمل أن يجد المبعوث الخاص نفسه يتعرض لضغوط من قبل كل من الأطراف المتنازعة لتفضيل وجهات نظرهم ومواقفهم، وعندما يكون الفاعل الرئيسي "غائبًا عن الطاولة، فإن ذلك يثير احتمال أن يلعب الممثل دور "المفسد"، وفي القرن الأفريقي، تعتبر إريتريا مؤهلة لذلك، وفي مرحلة ما، سيتعين على إريتريا أن تنغمس في أي وساطة متعددة الأطراف قد تحدث حتى تنجح العملية.
وسيعتمد نجاح أي مبادرة تقودها الصين على المدى الطويل في نهاية المطاف على استعداد الأطراف الإقليمية لتقديم تنازلات بشأن القضايا الرئيسية.
بالإضافة إلى إريتريا، فإن «صومالاند» التي تسعى لنيل الاستقلال عن الصومال، غابت أيضا، في ظل توتر علاقتها مع الصين وتوجهها لبناء علاقات قوية مع الولايات المتحدة إلى جانب تايوان.