يعود أصلُ هذا المَثل الشعبي إلى أيام الأصمعي الشاعر واللُّغوي المعروف، ففي أثناء مروره في البصرة وجد صخرة كبيرة منقوش عليها بيت من الشعر يقول:
أيَا معشرَ العُشَّاقِ بالله خبِّرُوا *** إذا حَلَّ عِشقٌ بالفتى كيف يَصنعُ
ففهم أنَّ هذا العاشِق يَطلُب النصيحة من العُشَّاق ذَوي الخبرة والتَّجرِبة؛ ماذا يفعل إذا أصابه العِشق، وابتُلي به، فرد عليه الأصمعي بهذا البيت: وقال:
يُداري هُواهُ ثُمَّ يكتُمُ سِرَّهُ *** ويَخشَع في كُلِّ الأُمُور ويَخْضَعُ
يقول: مَن ابتُلي بالعشق فليتمالك نفسه، ويكتُم سرَّه حتى يستطيع العيش في هذه الحياة، ثم مرَّ الأصمعي من نفس الطريق بعد يوم، فوجد العاشق رد عليه بهذا البيت:
وكيفَ يُدارِي والهَوى قاتلُ الفتَى *** وفي كُلِّ يومٍ قلبُه يتقَطَّعُ
عندئذٍ يئس الأصمعي من نصيحة هذا العاشق الولهان، فكتب: إذا لمْ يجِدِ الفتى صَبرًا لكتمان أَمْرِه * فليس شيء سِوى الموتِ يَنفَعُ وبعد مرور يوم وليلة مرَّ الأصمعي، فوجد الفتى قد أخذ بنصيحته وقتَل نفسه، ودوَّن له آخر كلماته:
سَمِعنا أَطَعْنا ثم مِتْنا فبَلِّغوا *** سَلامي إلى مَن كان للوَصْل يَمْنَعُ
هَنيئًا لأربابِ النَّعيمِ نَعيمُهُمْ *** وللعاشِق المِسكِين ما يَتجرَّعُ
إذن للحُبِّ نارٌ تتأجَّج في نفس المُحب، إن لم يستطعِ السيطرةَ على نفسه وكَبْح جِماحها فستَنفلِت الأمور، وتأتي العواقب بما لا تشتهيه الأنفُس السَّويَّة، ويتحول العاشِقُ إلى ثور هائج لا يهدأ حتى يعود إليه حبيبُه، وإن تركه معشوقُه فتلك إشارة إليه بأن ملَك الموت قد قبَض روحُه، وأسلمها إلى خالقه.
لم يَغمُض لنا جَفنٌ منذ مشاهدة ذلك الحادث الأليم المُروِّع؛ حادث ذبح الطالبة «نيرة أشرف» على يد شاب أحبها حبًّا جمًّا حتى جُنَّ من فرْط حُبِّه لها أو كاد أن يُجنَّ.. لقد تحوَّل هذا المُحب إلى كُتلة شر يصعُب احتواؤها، حوَّله صدُّ الفتاة إلى قاتل مُتوحش، يقتل وسط الظهيرة أمام مرأى الجميع؛ فهو غير عابئ بنتيجة ما يَفعله، لا ينظر إلى مستقبله الذي سيضيع، لا يكترث بسجن أو حتى إعدام، إنه فقَدَ السيطرة على نفسِه وتحوَّل إلى وَحْش مسلوب القلب.
إنَّ حادثَ المنصورة أزال الغطاء عن حقائق لا ينبغي لنا إغفالها؛ وهي أن أبناءنا -في ظل انتشار السوشيال ميديا والتقدم التكنولوجي- يجب أن يكونوا تحت أعيُننا، فلا مفرَّ من عودة الجو الأُسري؛ الذي يكون فيه الأب هو القائد والمَثل الذي يَقود ويُرشِد ويُوجِّه أبناءه، وتكون الأُمُّ الصَّديقة المُقرَّبة من بناتها، تَسأل عن أدقِّ التفاصيل بأسلوب رقيقٍ تارةً وحاسم تارةً أخرى.
رحلتْ «نيرة» ضحية عِشق جُنوني من طرَف واحد، ضحية الفجوة التي اتسعت بين الآباء والأبناء، وذهبت إلى مَن رحمتُه وسِعَت كُلَّ شيء، وبقيتِ الجريمة ببشاعتها وقسوتها لا تُفارق أعيُنَنا، ونحن في انتظار مُحاكمة عادلة ناجِزة للقاتل «العاشق» تُثلج صدورنا، وتطمئن قلوبنا، وتكون رادِعًا لكل مَن همَّ أو حدَّثته نفسُه الخبيثة بفعل مثل هذا العمل الذي جعله الله من كبائر الذنوب.
ختامًا: أدعو الله -سبحانه- أن يرحم ويغفر لـ«نيرة»، وأن يُسكنها فسيح جناته، وأن يرزق أهلها الصبر والسلوان، وأتمنى ألَّا تتكرر مثل هذه الحوادث الأليمة الدخيلة على مجتمعنا.