في مثل هذه الأيام من عام 1812 قام نابليون بونابرت وجيشه الذي بلغ 600 ألف رجل بغزو روسيا، ولكن اضطر الجيش الفرنسي إلى التراجع بعد أن لقي أكثر من 400 ألف جندي فرنسي حتفهم وغالبية هؤلاء سقطوا بسبب البرد والجوع، وكانت لهذه الهزيمة أبلغ الأثر في هزيمة الامبراطورية الفرنسية في هذا الوقت.
ترجع البدايات عندما أُعلنت إمبراطورية فرنسا في شهر مايو عام 1804 كانت تشمل فرنسا وإيطاليا وأجزاء من ألمانيا والنمسا وبلجيكا وتمتد حتى روسيا.
وفي ديسمبر عام 1804 تم تتويج نابليون إمبراطورًا فأصبح يحكم أجزاء واسعة من أوروبا، وقد واصل حملاته العسكرية وفي عام 1805 انتصر في معركة أوسترليتز على القوات الروسية والنمساوية، وأخضع الحلفاء باستثناء بريطانيا، وفرض الحماية على إسبانيا.
وكان للتفوق البحري البريطاني الفضل في عدم سقوط بريطانيا في قبضة نابليون، وعلى الرغم من هزيمته البحرية في ترافالغار (الطرف الأغر) أمام البريطانيين عام 1805، ظل نابليون صاحب اليد العليا في أوروبا بعد سلسلة من الانتصارات الحاسمة على القوى الأوروبية الأخرى بما في ذلك روسيا.
ولكي يحقق نابليون السيطرة الكاملة على أوروبا بشكل مباشر أو عن طريق التحالف مع قوى أوروبية أخرى لعزل بريطانيا وتجارتها عن القارة، أعلن في عام 1806 مرسومًا إمبراطوريًا يقضي بحصار الإمبراطورية البريطانية ومنع التعامل معها وإغلاق الموانئ الأوروبية أمام تجارتها.
وفي هذا الإطار، تم التفاوض على المعاهدة التي وقعها نابليون مع ألكسندر الأول، قيصر روسيا، في تيلسيت عام 1807 وهي المعاهدة التي فرض شروطها بونابرت.
ونصت تلك المعاهدة على تحالف روسيا وفرنسا، وبالتالي مشاركة الروس في الحصار القاري الذي فرضه نابليون على بريطانيا.
وفي أكتوبر من عام 1807، وقع ألكسندر الأول مرسومًا يحظر التجارة مع بريطانيا.
وكانت بريطانيا الشريك الاقتصادي الرئيسي لروسيا، ولم تكن فرنسا بحاجة إلى كمية كبيرة من الخبز الروسي وشحم الخنزير والأخشاب والمفروشات، مما خفض حجم التجارة الخارجية على الفور من 120 إلى 83 مليون روبل.
وكانت أبرز أثار مشاركة روسيا في الحصار القاري هي زيادة التضخم، وبات العجز هائلًا في ميزانية عام 1810 حيث كانت الإيرادات 125 مليون روبل والنفقات 230 مليون روبل، مما جعل الروس يفضلون مواصلة التجارة مع البريطانيين وتجاهل حصار نابليون.
ومن الأسباب الأخرى التي جعلت الروس يتراجعون في اتفاقهم مع فرنسا، أن بونابرت بعد أن نصب نفسه إمبراطورًا، ظل نابليون ثوريًا في نظر الطبقة الأرستقراطية حيث لم يؤد تتويج ملازم أول إلى مصالحة المنتقدين معه، بل اعتُبر صدمة أخرى للأنظمة الملكية.
ليس فقط في روسيا ولكن في جميع أنحاء أوروبا، حيث شعر الملوك والنبلاء أن النظام الأوروبي الحالي سيكون دائمًا تحت التهديد إلى أن يُهزم نابليون وتتشتت أفعاله في مهب الريح.
وبعد حوالي عام من المعاهدة، أعرب نابليون عن رغبته في الزواج من أخت ألكسندر الأول، كاترينا بافلوفنا. وقد أجاب ألكسندر أن شقيقته صغيرة جدا وقام على الفور بتزويجها من الدوق الألماني جورج أولدنبورغ.
وفي العائلة المالكة الروسية، كان شقيق الإمبراطور الدوق الأكبر كونستانتين بافلوفيتش هو فقط المؤيد للتحالف، أو على الأقل السلام مع نابليون.
حتى ماريا فودروفنا والدة القيصر كانت تعارض المعاهدة، وقد كتب لها ألكسندر يقول "لا يوجد تحالف حقيقي مع فرنسا، هناك فقط ارتباط مؤقت ومصالح مع نابليون، لم يتوقف الصراع معه لقد تغير شكله فقط، وسنكون قادرين على التنفس بحرية لبعض الوقت، وخلال هذا الوقت الثمين سندعم قواتنا، ولهذا نحن بحاجة إلى العمل في سرية وعدم المجاهرة بشأن أسلحتنا واستعداداتنا".
ولم يكن نابليون في حكمه ديمقراطيًا وكانت الحريات السياسية والمبادئ الانتخابية في فرنسا خلال حكمه أقل مما كانت عليه في عهد البوربون السابق، لكنه طبق باستمرار فكرة المساواة المدنية والفرص غير المحدودة.
و في عام 1810 توصل الطرفان إلى استنتاج مفاده أن الحرب آتية لا مفر منها.
فزاد نابليون الاعتمادات السنوية للجيش من 389 مليونًا إلى 556 مليون فرنك، واعترض على شراء روسيا لـ 50 ألف بندقية من أوروبا وتقديم قروض لها من قبل المصرفيين الفرنسيين والهولنديين، وأذن بطباعة روبل مزيف.
ومنذ صيف عام 1811، بدأت الزيادة في عدد القوات في بولندا وشرق بروسيا وإنشاء مستودعات للذخيرة، وبلغ عدد القوات الروسية قرب الحدود بحلول ذلك الوقت بالفعل نحو 200 ألف فرد بينما بلغ العدد في الجانب الفرنسي 70 ألفًا.
وأبلغ المارشال دافوت قائد القوات الفرنسية نابليون، في إشارة إلى البيانات الاستخباراتية: "يتحدث الروس علانية عن الغزو في ثلاثة اتجاهات: عبر بروسيا، ومن غرودنو إلى وارسو وعبر غاليسيا".
وفي مارس عام 1810، قدم وزير الحرب الروسي لألكسندر الأول خطة تحتوي على خيارين: الهجوم والدفاع، وفي أبريل عام 1812، اقترح وزير الحرب الروسي بدء حرب وقائية على الفور.
ومع ذلك، فإن ألكسندر، الذي عاش تجربة مؤسفة في قتال نابليون في أوروبا في عامي 1805 و 1807، انجذب نحو فكرة استدراج العدو في عمق البلاد وإرهاقه في المعارك الدفاعية.
وفي عام 1812 تحالفت روسيا مع السويد عدوة نابليون الذي لم يعد بإمكانه التغاضي عن تجاهل روسيا لالتزاماتها بموجب المعاهدة.
قام الجيش الفرنسي الكبير البالغ قوامه 600 ألف جندي بقيادة نابليون بغزو روسيا في يونيو من عام 1812، ولم يكن الجيش الروسي يصل في حجمه إلى نصف قوة الجيش الفرنسي فقط، بل لم يكن يعرف في البداية ما إذا كان هدف بونابرت هو موسكو أم سان بطرسبرغ.
وتبنت القوات الروسية سياسة التراجع الاستراتيجي حيث استفزت الغزاة لكنها رفضت الانخراط في معركة حقيقية.
بعد أسبوع واحد دخل نابليون موسكو، وانتظر هناك لسفارة السلام التي افترض أنها ستأتي من القيصر، مر شهر ومع اندلاع الحرائق في جميع أنحاء المدينة وتزايد الجوع وعدم السيطرة على قواته، أمر نابليون بالانسحاب.
ظل كوتوزوف يتابع الفرنسيين مع عودتهم إلى الغرب، رافضًا الاشتباك على الرغم من إلحاح جنرالاته، فهو لم ير أي حاجة لخوض معركة أخرى فقد كان نابليون يغادر على أي حال، وكان راضيًا عن السماح لغارات القوزاق باستنزاف الخطوط الفرنسية، ومع انخفاض درجات الحرارة ترك الباقي لحليفه الأكبر "الجنرال الشتاء".
وهو ماحدث بالفعل، عندما اجتاحت العاصفة الثلجية الأولى الجيش، وأعقبها ذوبان الجليد والصقيع حدثت الغالبية العظمى من خسائر نابليون.
فبعد أن أحاط به الجليد، أخذ الجيش ينسحب عبر ساحات المعارك، ولم يجد مأوى من قسوة المناخ، لم تكفه المؤن المتضائلة مع لجوء الروس لسياسة الأرض المحروقة.
ومع استمرار الثلج بالهطول، كان الجنود الفرنسيون يفتقرون للملابس الدافئة والأحذية، لم يكونوا مستعدين لفصل الشتاء، وما إن بدأت الحرارة تهبط إلى 30 درجة تحت الصفر حتى بدأ الرجال يتجمدون
وفي نوفمبر من عام 1812، كانت قوات نابليون التي وصلت إلى مدينة فيازما قد انخفض عددها بالفعل إلى حد كبير.
وفي رسالة وجهها نابليون إلى زوجته الإمبراطورة ماري لويز، أوضح نابليون بونابرت أسباب هزيمته في روسيا قائلا: "الشتاء كان كارثتنا، أصبحنا ضحايا الطقس الروسي".
وقد واصلت القوات الفرنسية انسحابها من الأراضي الروسية متكبدة خسائر كبيرة حتى وصلت إلى نهر بريزينا حيث قرر الروس اعتراض طريق الفرنسيين هناك.
فقد دمر الروس الجسر الوحيد الذي يعبر نهر بريزينا، وهنا رسم نابليون خطة جريئة بأن يبني جسرًا على النهر، وبالفعل نجح الفرنسيون في بناء جسرين كبيرين عبرت عليهما معظم القوات الفرنسية قبل أن تدمرهما القوات الروسية، وعندما كان الجيش المنسحب على بعد حوالي 100 كيلومتر شرق فيلنيوس "عاصمة ليتوانيا"، سلم نابليون القيادة إلى المارشال مورات وهرع إلى باريس قبل أن يصلها نبأ الهزيمة.
فقد وصلت أنباء من باريس عن محاولة انقلاب لإسقاط الإمبراطور، فنصحه الجنرالات بالتوجه فورًا إلى فرنسا، فانطلق في رحلة طولها 900 ميل إلى العاصمة الفرنسية، وكان يعلم بأهمية وصوله إلى هناك قبل أن تُشاع في أوروبا أنباء هزيمته.
وحسب التقديرات وقتها أنه من بين 612 ألف مقاتل دخلوا روسيا عاد 112 ألف فقط إلى الحدود، ومن بين الضحايا، يُعتقد أن 100 ألف قتلوا في المعركة، و 200 ألف لقوا حتفهم لأسباب أخرى، و 50 ألف جندي ماتوا في المستشفيات، و 50 ألفًا فروا من الجيش، و 100 ألف أُخذوا كأسرى حرب.
وبينما كان نابليون يأمل أن ترسل النمسا وبروسيا تعزيزات لمساعدة مورات في الحفاظ على الجبهة حتى يعود هو نفسه بجيش جديد، - وهو ما لم يحدث - ، أعلن ألكسندر قيصر روسيا "أنا أو نابليون من الآن فصاعدًا لا يمكننا أن نكون في الحكم معًا".
ودعا قيصر روسيا أوروبا إلى حمل السلاح لإنقاذ الناس الذين استعبدتهم غزوات نابليون، وبحلول نهاية ديسمبر من عام 1813، لم يكن لدى نابليون سوى 90 ألف جندي للدفاع عن حدود فرنسا، فيما كان الحلفاء على وشك غزو فرنسا بثلاثة جيوش.
في 31 مارس عام 1814، دخل الحلفاء العاصمة الفرنسية باريس حيث دعوا السكان لاتخاذ قرار بشأن شكل حكومتهم المستقبلية، كما قرروا عدم إبرام السلام مع نابليون.
وفي أبريل من عام 1814، أعلن مجلس الشيوخ الفرنسي خلع نابليون، وفي هذه الأثناء، في فونتينبلو، رفض المارشالات أتباع نابليون مطالباته القيام بمحاولة أخيرة للمقاومة بقواته البالغ عددها 60 ألف جندي، وسمحوا له بالتنازل عن العرش لصالح ابنه.
وقد منحته معاهدة فونتينبلو، التي قبلها من الحلفاء في أبريل من عام 1814، سيادة جزيرة إلبا (الإيطالية)، ولقب الإمبراطور، وراتبًا سنويًا.
وبذلك، دخل ألكسندر الأول قيصر روسيا باريس منتصرًا في مارس من عام 1814 وتم إجبار نابليون على التنازل عن العرش، ووافق القيصر على مضض على استعادة حكم أسرة البوربون، التي لم يكن يحترمها كثيرًا، وفرض ميثاقًا دستوريًا على الحاكم الجديد لويس الثامن عشر.
وفي مارس عام 1815 عاد نابليون مرة أخرى ، واستجاب المحاربون القدامى في الجيش الكبير إلى دعوته للانخراط في جيشه، فإن العديد من جنرالاته رفضوا حمل السلاح ضد ما اعترفوا به على أنه حكومة شرعية، وكان رجال الدين راضين تحت حكم ملك من البوربون، وكان التجار يكرهون فكرة حرب أخرى.
ونشبت معركة واترلو التي وقعت في يونيو من عام 1815 هزيمة نابليون النهائية، منهية أكثر من عقدين من الحرب المتكررة بين فرنسا والقوى الأخرى في أوروبا.
وقد توجه نابليون إلى الساحل الغربي، حيث سلم نفسه لقائد السفينة الحربية البريطانية إتش إم إس بيلروفون في يوليو من عام 1815
وتم نفي نابليون إلى جزيرة سانت هيلانة النائية الواقعة في جنوب المحيط الأطلسي، ووصل مع حفنة من الأتباع المخلصين في أكتوبر من عام 1815
وقد سُميت فترة عودة نابليون من جزيرة إلبا بفترة المائة يوم نسبة إلى المدة الزمنية الفاصلة بين تاريخ دخول باريس وتاريخ الهزيمة في معركة واترلو.
وبعد 6 سنوات مات نابليون في جزيرة سانت هيلانة.