كان الراحل الدكتور أحمد خالد توفيق، قد اشتهر على كلا الصعيدين، كأستاذ فى الطب وأستاذ فى أدب الرعب، يسخر دومًا من كل شيء. برزت شخصيته الملولة من خلال بطله الأشهر رفعت إسماعيل، ذلك الأصلع العجوز -الفاتن فى الوقت نفسه- الذي كان يُشبه قاطرة قديمة مُتهالكة من فرط التدخين، ويضع عطرًا فى المناسبات بينما يرتدى تلك البذلة الكحلية التى تجعله فاتنًا، ويخوض في عالم ما وراء الطبيعة.
رحل أحمد خالد توفيق، قبل سنوات، بعدما مزج فى عقول هذا الجيل -الذى صار بين منتصف العشرينات ومشارف الأربعينات من عمره- الرعب بالفكاهة بالمعلومات الطبية والعلمية التى كان يبثها فى الصفحات التى تجمعنا برفعت وبطله الآخر علاء عبدالعظيم، الذى كان مرشدنا فى أحراش أفريقيا؛ والحكايات التاريخية التى خاضتها بطلته الدميمة شكلًا والرائعة عقلًا عبير عبدالرحمن، رفيقة عالم الفانتازيا التى طالما ركبنا معها فى القطار بجوار المرشد المضحك ذى القلم الزنبركى العتيد، والذى صار بدوره علامة أخرى فى ذلك العالم المليء بالمغامرات.
لم يكن الرجل يحب الظهور كثيرًا، كان خجولًا حقًا، يُفضّل أن يلتقى الناسَ فى مكتبه العتيق بكلية الطب بدلًا من الأماكن الفاخرة، وبينما كان الآخرون ينزحون إلى القاهرة بحثًا عن المجد، فضّل البقاء فى مدينته الأثيرة طنطا التى اختار أن يتم دفنه فيها، وبينما كان غيره يتشدقون بالحديث عن طقوسهم الخاصة فى الكتابة كان يقول «أغتاظ جدًا من الكُتّاب الذين يُحضّرون طقوسًا كأنهم كهنة. فقط أعطنى صمتًا وأعطنى ليلًا بس كده، وزمان كان أعطنى علبة سجائر مليئة، طبعًا انتهى هذا الجزء».
يعترف الكثير من أبناء هذا الجيل أنهم عرفوا الفرنسى الأشهر فى علم التنبؤات، ميشيل دى نوستراداموس، عبر «أسطورة العراف» التى ذكر فيها أن الرجل تنبأ بموعد وفاته. لم يكن هو نفسه يدرى أنه فعلها مثل المنجم الفرنسى عندما كتب فى روايته «قهوة باليوارنيوم»: كان من الوارد جدا أن يكون موعد دفنى هو الأحد 3 أبريل بعد صلاة الظهر.. كنت أشعر أننى لن أرى طنطا ولا أولادى ثانية».
ليس هذا فقط، فقد كتب الدكتور أحمد خالد توفيق ذات مرة: «ستكون مشاهد جنازتى جميلة ومؤثرة.. لكنى لن أراها للأسف، برغم أننى سأحضرها بالتأكيد!».. وقد كان.
كتب من قبل: «ماذا سيقولون عنى حين أموت؟.. د. رفعت إسماعيل راهب العلم الذى لم يتزوج من أجل دراسة أمراض الدم.. له أسفار عديدة وصداقات كثيرة فى الوسط العلمى، وله تأملات خاصة فى الميتافيزيقا.. هذا هو كل شيء..
ولكن أين حقيقتي؟.. أين معاناتى العاطفية؟.. مشاكلى مع التدخين؟.. مخاوفى وإحباطاتي؟.. لحظات نصرى ولحظات هزيمتي.. كل هذا لن يعرفه أحد سوى من دنا منى إلى مسافة سنتيمترات وسمع سعالى ليلًا.. وأصغى لصوت اصطكاك أسنانى بردًا.. وخاض معى مغامرة اختيار ربطة عنق قبل أن أقابل خطيبتي».
لم يكن يتخيل أحد أن يتنبأ الراحل فى أعماله بيوم وفاته، ويحدده بيوم 3 أبريل، كأنه كان يقرأ الغيب من كتاب مفتوح، فقد كتب فقرات من رواية «قهوة باليورانيوم»، يشير فيها إلى تاريخ وفاته وموعد صلاة الجنازة عليه. ففى الصفحة 62 من الرواية، بدأها توفيق قائلا: «اليوم، كان من الوارد جدا أن يكون موعد دفنى هو الأحد ٣ أبريل بعد صلاة الظهر.. إذن كان هذا هو الموت، بدا لى بسيطا ومختصرا وسريعا، بهذه البساطة أنت هنا، أنت لم تعد هنا، والأقرب أننى لم أر أى شيء من تجربة الدنو من الموت التى كتبت عنها مرارا وتكرارا، تذكرت مقولة ساخرة قديمة، هى أن عزاءك الوحيد إذا مت بعد الخامسة والأربعين هو أنك لم تمت شابا».
اللافت أن خالد توفيق، انتقد أيضا فى سلسلته «ما وراء الطبيعة»، تعامل الإعلاميين والمثقفين مع وفاته، من خلال إسقاط على شخصية رفعت إسماعيل، وهو الشخصية الرئيسية التى احتلت مكان البطولة فى حوالى 80 أسطورة من كتابات سلسلة «ما وراء الطبيعة»، التى كتبها على مدار 15 عاما تقريبا، حقق من خلالها نجاحا كبيرا وانتشارا واسعا بين فئة الشباب، وكان «توفيق» يشير إلى أن هذه الشخصية هى الأقرب إليه شخصيا.