وسط زخّم الحياة وهمومها يتّوق الجميع للخروج عن دائرة المدينة وضجيج أصواتها قاصدين الهدوء والراحة والسكينة، والأقباط على خطى غيرهم من المصريين، حينما يضيق صدورهم تكون قبلة هؤلاء الصحراء الخالية، حيث الأديرة والكنائس القديمة والحديثة للتبارك منها، حيث تحمل نفحات وطابع روحيًا لما تحويه غالبيتها من رفات بعض أجزاء من أجساد قديسين، أو يلتقوا رهبان ليصلوا معًا.
وتحتضن أرض مصر العديد من الأديرة منها القديم والحديث الخاص بالرهبان والراهبات، وأيضًا بينها المعترف به وغير المعتمد كنسيًا، حيث إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تضع ضوابط للاعتراف بالأديرة التى شيدت حديثًا دون إشرافها المباشر، وتضمنت تلك الشروط الستة أن تكتب أرض الدير باسم بطريركية الأقباط الأرثوذكس، أن يخضع كل من في الدير بمن يرسله البابا ليشرف على الدير ماليًا وروحيًا وكنسيًا، ضمان سلامة الدير العقيدية وتبعيته للعقيدة القبطية الأرثوذكسية، إنشاء سور يضم بداخله كل حرم الدير ومشتملاته، وارتداء الزي المعترف به في الكنيسة للرهبان.
تلك الضوابط وضعت في ضوء استشراء ظاهرة تشييد مباني واستئجار مزارع من قبل رهبان حاليين، أو مجردين عن الخدمة الكنسية أو من لديهم خلافات مع الكنيسة وقيادتها لمحاولة إيجاد متسع للبقاء على المنصب الديني أو الانتفاع منه بجمع تبرعات أو غيرها، البعض يضع الكنيسة فى حرج ويحدث من خلالها مشكلات مع أجهزة بالدولة.
وبدأ البابا تواضروس الثانى، بابا وبطريرك الكرازة المرقسية، فى تعيين أساقفة مشرفين على الرهبان والمبانى روحيًا وإداريًا وعلى سبيل المثال ما حدث فى دير ماريوحنا الحبيب الذى أنشئ حديثًا وتنطبق عليه الشروط وبات يشرف عليه الأنبا مقار أسقف العاشر، وأيضًا دير السلام فى منطقة الخطاطبة ويشرف عليه الأنبا دوماديوس أسقف 6 أكتوبر.
كما أن هناك أماكن أخرى ما زالت محل جدل وتفتح أبوابها وترفع لافتات بأسمائها على الطرق العامة والرئيسية وتقع جوار أديرة وأبرزها ما يتخذ اسم «دير السيدة العذراء والأنبا كاراس بوادي النطرون»، والذى يرعاه الراهب المُجرد يعقوب المقاري، والتى أعلنت الكنيسة القبطية في 28 أغسطس 2018 تجريده من رتبته الرهبانية بسبب الدير، حيث أنشاه ورفض حلول الكنيسة لضمه إليها وحل مشكلاته، وتزايدت وتيرة الخلاف رغم محاولات وأدها، وكان رد الراهب على قرار تجريده قيامه برسامة رهبان جدد، وظهر حاملًا عصا ومرتديًا زيا كهنوتيًا مزركشًا يشبه شكل- بعض الشيء- بملبس الأساقفة الكبار، وأعلن صراحة عدم التبعية للبابا البطريرك والقيادة الكنسية.
مرت السنوات وما زالت أبواب الدير مفتوحة لكل عابر وماض، حيث إن موقعه بجوار دير البراموس فى وادى النطرون يجعل الوافدين والزائرين يمضون أمامه ويدفع الكثيرين للدخول قاصدين التبارك والصلاة، الأمر الذى دعا الكنيسة القبطية مرارًا إلى إصدار بيانات تحذر من الزيارة أو التبرع للأديرة غير المعترف بها، وخاصة بعد بلوغ أزمة «دير الأنبا كاراس» بوادى النطرون حدها، وحاول جاهدّ الراهب المجرد «يعقوب» أن يتداول فيديوهات للرد على الكنيسة القبطية وينشر التفاصيل الخاصة باللقاءات التى دارت بينه وبين الأساقفة حيال مباحثات ضم الدير ليخضع للكنيسة، والتى باءت بالفشل حتى وصلت للتجريد وإعلانه الانفصال، واستمر الحال حتي الآن.
يبدو استنفاد مراحل التفاوض الكنسي لم تعد مجدية، فكان اللجوء خارج أسوارها حيلة لمحاولة إعادة الكرة لملعب التفاوض بشكل سياسى من طراز جديد، حيث كشفت مصادر لـ«البوابة» أن هناك سيدة مجتمع لها تواصل مع الراهب المشلوح وأيضًا لها باع داخل الأحزاب السياسية، وعرضت الأمر على قيادة حزبية ونائب سابق أنه سيحاول التفاوض ورأب الصدع بعد لقاءًا جارِ تنسيقه مع الراهب السابق للاستماع منه.
وقالت المصادر إن هناك ترتيبات للقاءات تجمع الراهب المجرد والقيادى السياسى للاطلاع على أركان المشكلة لمحاولة التدخل والتواصل مع الكنيسة للتفاوض بشأنها وبحث أمر إمكانية رجوع الراهب مجددًا مع الحفاظ على حقه فى الإدارة والترتيبات للدير غير المعترف به كنسيًا لما بذله فيه من جهود.
وأكدت المصادر، أن الراهب السابق لم يتوقف لحظة واحدة عن مواصلة دوره القيادى للدير خلال الفترة الأخيرة ويقيم الصلوات والطقوس الروحية رغم تجريده الكامل من الرتبة الكنسية، بل ويستقبل طلاب رهبنة جدد ويواصل التوسع فى أنشطة الدير.
وتابع: «هل يتدخل رجال الدين فى وساطة سياسية لرجوع شخص فصل من حزب مثلًا حتى يسمح السياسيون لأنفسهم التدخل فى الأمور الدينية بهذه الصورة السافرة، والتي لا عائد منها إلا حرج للوسيط والداعي للوساطة».
وفى إطار الأديرة غير المعترف بها وحائرة المصير دير عمانوئيل للراهبات بمنطقة وادى النطرون ولم تعترف به الكنيسة ويضم عددًا من الراهبات يعشن حياة رهبانية، ودير بنسلفانيا أسسه الأنبا بطرس الأسقف العام عام 2012، وأعلن تمسكه به بعد بيان الأنبا كاراس أسقف بنسلفانيا، مما تسبب في حالة من الجدل بالكنيسة إذا ما كان معترف به أم لا، وأيضًا دير الزيتونة على طريق مصر إسماعيلية الصحراوي، وأنشأه القمص إبيفانيوس السرياني عام 2005، لم يقم بأي أعمال خارجة أو لم يتسبب في أي أزمات للكنيسة، إلا أنه لم يعترف به ويبدو أن سبب ذلك نزول الراهب المجرد أشعياء المقاري، قاتل الأنبا إبيفانيوس، بهذا المكان فترة من الزمن.
وتظل إشكاليات الأديرة المستحدثة، والتى شيدت من خلال أساقفة ورهبان بعيدًا عن الضوابط المنظمة الحالية أمرًا يسبب صداعًا في رأس الكنيسة بين الحين والآخر ويدعو أصحابها أحيانًا للخروج من حيز التفاوض الكنيسة واللجوء لمسارات أخرى لمحاولات البقاء فى صدارة المشهد.