يثار بين الحين والآخر دعوات لتجديد الخطاب الدينى المسيحى لمواكبة التغييرات العصرية، دون تحديد ما المقصود بالتجديد، فالنص المقدس لا يحتاج إلى تجديد، ومن هنا كان لا بد أن نتوقف أمام ماهية الخطاب الديني بشكل عام، وندرس «مشكلات الخطاب الديني»، وهى إمكانية الحديث عن الله بشكل له معنى إذا كانت المفاهيم التقليدية المتعلقة بأن الله كيان معنوي، مطلق، وأبدي مُسلم بها، ولأن المفاهيم التقليدية عن الله جعلت من الصعب وصفه، وبذلك فمن الجائز أن تصبح لغة الخطاب الديني بلا معنى، ولقد حاولت النظريات المتعلقة بالخطاب الديني إما إثبات أن هذا الخطاب بلا معنى أو إيضاح أن الخطاب الديني على الرغم من كونه مُعضل فهو ذو معنى.
وكل هذه الصفات تمثل طريقة للحديث عن الله بمصطلحات تخص الإنسان، وتستخدم بشكل غير حرفي لوصف خبرات لا توصف، والتفسير الخرافي للدين يحاول كشف حقائق رئيسة خلف القصص الدينية، وتصيغ التفسيرات البديلة للخطاب الديني على أنه له وظائف سياسية، إلزامية، ووظائف خاصة بالأداء، ومن هذا المنطلق بحثنا مع مفكرين وكتاب وباحثين أقباط إمكانية تجديد الخطاب الديني المسيحي.
فهم النص
يرى الباحث عبد المسيح يوسف أن النص المقدس لا يحتاج إلى تجديد، لكن فهم النص وتطبيقه يحتاج إلي روح متجددة، تعمل من أجل صالح ومنفعة الإنسان، ففي الفكر المسيحي، أن الله أرسل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، فالمسيحية تقوم على عدة مبادئ وقيم سامية، يأتي في مقدمتها المحبة وفداء الإنسان من الخطية، فالخطاب المسيحي يهتم بالإنسان، بل إن الكنيسة في معناها الحقيقى، هى جسد السيد المسيح، التي يقصد به مجموعة المؤمنين، البشر، والإنسان، وجاءت المسيحية من أجل خلاص وفداء الإنسان.
وأشار إلى أن الخطاب الديني المسيحي ينطلق من أهم قيمتين في المسيحية المحبة والفداء، من جرب ممارسة الشعائر الدينية، والتطبيق المحب للنص المقدس، المستمد من الكتاب المقدس، يجد لذة وبركة لا تتعارض مع أعمال العقل، خاصة أن أكثر المدافعين عن الدين هم من لديهم عقلية نقدية، ولكنهم لظروف ما ذاقوا لذة الحياة مع كلمة الله المقدسة، التي تهدف خلاص وفداء وسعادة الإنسان على الأرض وفي الحياة الأبدية في السماء.
وأضاف «يوسف»: «لا يمكننا الحديث عن تجديد للنص الديني المقدس في المسيحية، لكن من المهم الحديث والحوار حول فهم وسياق تطبيق هذا النص، وهذا يجعلنا نفكر ونتأمل كثيرًا في خطاب الآباء الأوائل في المسيحية، والذين يعدون يمثلون فلاسفتها، ويأتي في مقدمتهم بولس الرسول، أحد أعظم فلاسفة المسيحية، والذي كان يضطهد المسيحية أكثر من أي شخص يهودي روماني، ولكنه عندما آمن، أصبح فيلسوف المسيحية المدافع عنها، والراسي لنسق أفكارها وعقيدتها، ومن يقرأ لفلاسفة مهمين، ويحلل مضمون أفكارهم، سواء كان أفلاطون، سقراط، ماركس، نتشة، كافكا، روسو، سارتر، أدم سميث، ديكارت، وغيرهم، من المهم أن يقرأ لكتابات آباء الكنيسة الأوائل، وفي مقدمتهم بولس الرسول والقديس أثناسيوس الرسول وفلاسفة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية».
وقال «يوسف» إن إعادة قراءة وفهم النص المقدس، يتطلب أن ننطلق من نقطة محورية، هي أن الإنسان هو محور المسيحية، وأن الله أحب هذا الإنسان، وعلى رجال الدين المسيحي، في توجيهاتهم ونصائحهم أن يحبوا هذا الإنسان، ويوجهونه للحياة مع الكلمة المقدسة، بعيدًا عن أساليب الترهيب والتخويف والتشدد والخوف من نار جهنم، وإلا سينصرف عنهم، وليعشوا في علاقات سوية ومتسامحة مع بعضهم البعض ومع الآخرين بعيدًا عن التشدد والتطرف الدينى التجارى.
تأثير رجال الدين
فيما تختلف الكاتبة ماجدة سيدهم مع الرأي السابق، وترفض تعبير الخطاب الديني المسيحي، لما يحمله من دعم ضمني أو تضامن أو تشبه يواكب تجديد الخطاب الديني الإسلامي، طالما المجتمع كله يعاني من عقلية رجل الدين الرجعية والمنغلقة، والتى نجحت في تشويه العقل وأدت إلى تشتيت نفسي في المجتمع على السواء، وقالت إن رجل الدين أثر ومازال يؤثر في وجدان وعقل وسلوك المجتمع، فنحن نعيش العصر الذهبي لرجل الدين، ولكنها قالت إن الأمر يختلف تمامًا في الجانب المسيحي الذي لا يوجد اختلاف عقائدي إطلاقًا بين طوائفه المسيحية، فكل الطوائف المسيحية تؤمن بعقيدة الفداء والصلب وقيامة المسيح.
وأضافت «سيدهم»: «غاية الأمر الاختلاف في طرح ومناقشة بعض القضايا غير الكتابية، كما في المشكلات الأسرية أو كما أثير من قبل عن أداة التناول المقدس وقت أزمة كوفيد- 19، وكذا مناقشة فى الأمور الطقسية أو التنظيمية بداخل المؤسسة الكنسية، فضلا عن لغة التواصل لنقل الفكرة من رجل الدين «الكاهن» إلى الشعب، والتي تتسم أغلبها للأسف بعدم الانفتاح وعدم الثقافة، فكل تلك القضايا وأكثر هي محل تناول من قبل العديد من الرموز العلمانية من أجل التخلص من الأفكار التى باتت تشكل عبئًا ثقيلًا على الشعب، وتيسير الحياة على نحو أرحب (جئت لتكون لهم حياة أفضل)».
وتروى « سيدهم» مشهدًا في غاية الأهمية وللأسف قد يلخص أمورًا كثيرة، فتقول: «في إحدى العظات لقداسة البابا تواضروس من سنوات عديدة، تحدث بعقل متفتح وبكل بساطة وطرح على الشعب بالشرح والتوضيح توحيد الاحتفال بأعياد الميلاد من ٧ يناير ليتفق مع ٢٥ ديسمبر، ثم عرض الأمر لرأي الشعب، والذي قوبل للأسف بهجوم ورفض وغضب شديد، باعتبار أن هذا من صميم الإيمان، فما كان من قداسته إلا أنه تقبل الأمر بصدر رحب، لتضج الكنسية بالزغاريد كأنه الانتصار العظيم على هجوم وقع فجأة بالكنيسة».
وتقول هذا الموقف وغيره يشير إلى مساحة مخيفة من التعصب من دون فهم لدي غالبية الشعب، « دا اللي اتربينا عليه»، وكأن المسيحي سيفقد مسيحيته أو ستسقط العقيدة كلها لو احتفل المسيحى مثلًا في ديسمبر أو لو اختلفت أداة التناول أو حتى لو ذاق أي مخبوزات بالسمن أو اللبن أيام الصوم خاصة لو أبونا قال وشد، ومرجع ذلك الثقافة الجافة والمتعصبة التى اكتسبها الشعب المسيحي على مدار سنين طويلة من التعاليم الملقنة من العديد من الآباء باعتبارهم فقط هم الذين يعرفون كل شيء عن الكتاب، وعن الله وعن كل شيء في الحياة، وعليه اكتفى الشعب أنه يأخذ إيمانه في كبسولات، فيطلب المفيد «كلمة منفعة يا أبونا» فهذه الكلمة فيها الراحة والإيمان والتفاؤل، باعتبارها صوت من ربنا، «وزي ما أبونا هايقول احنا نمشي وراه».
تعصب مرفوض
وأضافت «سيدهم»: حتى عن العواقب نلتقى أبونا أشهر جملة (ابن الطاعة تحل عليه البركة) والتى صنعت قطيعًا مقهورًا بامتياز، وفي الوقت نفسه هي جملة تريح من النقاش، يعنى «اسمعوا الكلام واسكتوا»، وللأسف رجل الدين ضيق الأفق هو نفسه من هذا الشعب الذي أصبح متعصبًا بسب الفكر المنغلق، بالتالي نظل في دائرة عقيمة من الانغلاق غير المثمر بالمرة، للأسف أصبحنا مثل شجرة التين، لها شكل التقوى وهي فارغة تمامًا بلا روح ولا فاعلية».
وتتابع: «والآن ومع متطلبات الحياة القاسية، أصبح من الحتمي الكثير من المرونة ورحابة العقل حتى في فهم الكلمة، فما الضرر إذ نتمثل بيسوع المسيح، وتتساءل لماذا ليه نخاف من التحرر من القيود؟ ولماذا التشبث بالحرف الذي لا يخلص اطلاقًا بل يزيد الحياة أعباء ويدفع فعلًا إلى العنف والخصومات والتشتت والكذب»، وتستكمل أن المسيح لم يتعامل مع كل البشر بنفس الطريقة، نحن في أمس الحاجة للفهم والتغيير، المسيحية دعوة للفهم والحرية والفرح، فأي فرح مع نفوس يطفئها الحرف؟.
تطوير لمواكبة العصر
أما الباحث الدكتور نجاح بولس، له رأي آخر، فيؤكد أن الخطاب الديني المسيحي يحتاج إلى تطوير، ويقول: «الخطاب الديني المسيحي مثله مثل أي خطاب ديني، يحتاج إلى التطوير والتعديل من وقت لآخر حسب متطلبات كل عصر، وما يحمله من أنماط لاستهلاك الثقافة وإعادة قراءة وتدوير المعارف، وحينما نتحدث عن الخطاب الديني فأننا أولًا وأخيرًا نتحدث عن خطاب وليس نصوص دينية مقدسة، فالخطاب كما يحمل تعقيبًا وتفسيرًا للنص الكتابي، فهو أيضًا يتأثر بالتراث والتاريخ الكنسي وما علق به من شوائب لا أصل لها في النصوص الانجيلية أو التقاليد الكنسية».
وأضاف: «تحدثنا كثيرًا عن ضرورة تنقية التراث والتاريخ الكنسي مما علق به من قصص وخيال وفلكلور تطور مع الوقت إلى ثوابت تاريخية وثقافية قدسها الناس كمقدسات لا تقبل المساس، وليس هناك شك في تأثيرها الضار على العقل الجمعي القبطي وقدرته على التعامل مع ما بلورته أنماط الحياة المعاصرة من قيم إنسانية وأخلاقية».
قصص وأساطير
فهناك الكثير من القصص والأساطير والخرافات تسللت عبر الزمن إلى التراث، وباتت جزءًا أصيلًا من الخطاب الديني المسيحي للأقباط، ومن ضمنها ما تسلل إلى بعض الكتب الطقسية داخل الكنيسة ككتاب السنكسار والدفنار والميامر «سير القديسين»، تحتوى بعضها على قصص خيالية ليس لها أي أساس من الصحة، وخصوصًا فيما يتعلق بمعجزات القديسين، ومبالغات بشكل لا يقبله العقل ولا يتناسب مع فلسفة المعجزات وطبيعتها في الكتاب المقدس بعهديه.
وأضاف: «كذلك القصص المتعلقة بالآباء السواح حدث ولا حرج، كم هائل من الخيال والفلكلور ولا تعتمد على أي منهج علمي في سرد التاريخ، فتسربت إليها روايات خيالية صورت بعض السواح يطيرون ويدخلون عبر النوافذ المغلقة، وأشكال كثيرة من الروايات اختلط فيها التاريخ بالفلكلور الشعبي، والتأثر العاطفي بالشخصيات المعاصرة وما خلفه من تأليف القصص والأساطير حولهم وحول معجزاتهم وعلاقاتهم بالقديسين، وما يتم إنتاجه من أفلام للقديسين المتداولة يكشف عن طبيعة الخطاب الديني السائد في الكنيسة حاليًا، خطاب ملتبس يجنح نحو تغييب وتسطيح العقول، يخلع حالة من التقديس على خرافات وأساطير ليس لها أساس من الصحة أو المنطق، وبينما تبرز ما يتداول حول حياة القديسين من أساطير وخرافات، تتنكر وتستنكر وتتعمد التعتيم على إنتاجهم الفكري وإسهاماتهم الثقافية في الشأن اللاهوتي أو الفلسفي».
ويؤكد «بولس» أن الخطاب الديني الحالي محتاج إلى تحقيق وتطوير وتنقيح حتى يتلاءم مع طبيعة الشخصية القبطية الحديثة، قائلًا: «أكاد أجزم أن طبيعة الخطاب الديني ونمط استهلاكه شعبيًا، من أكثر العوامل المؤثرة على تقدم الشعوب عبر تجارب الدول المختلفة شرقًا وغربًا».
أساليب موجودة
أما النائبة نجلاء باخوم، فتشير إلى أن الخطاب الديني الذي نتحدّث عنه، يتمثّل في العظات، والمقالات، اللقاءات الدينية،…الخ، هو كل ما يتفوّه به رجال الدين وغيرهم بصدد موضوع الدين. فكثيرًا ما يسعى رجال الدين المسيحي، في خطاباتهم الدينية إلى تثقيف الشعب بالثقافة الدينية، محاولين بث روح الإنجيل في قلوب المؤمنين، كما يجتهدون أيضًا في تثبيت المؤمنين في الكنيسة، التي هي جسد المسيح السري. كما يسعون أيضًا إلى حلول للمشاكل، التي تواجه الشباب في عصرنا الحالي كالبطالة مثلًا.
وأضافت: «لكن أمام كل ما تقوم به الكنيسة في سبيل أبنائها، لكي يعيشوا عيشة هنيئة سعيدة، إلا أن هناك بعض الملاحظات التي تثير الجدل والشك. فيمكننا الآن أن نعرض بعض الأساليب الموجودة، والتي عادة يستخدمها رجال الدين في الخطاب الديني، والتي تحتاج إلى تجديد، حتى يكون الخطاب الديني المسيحي، له ثقله وقيمته في مجتمعنا المصري».
الترهيب والتخويف
وتطرح النائبة بعض تلك الممارسات، منها أسلوب الترهيب والتخويف، وهى من الأساليب التي أكثر انتشارًا وأشدها حاجة إلى المراجعة والتجديد، وهو الدعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله عن طريق التخويف. فأسلوب كهذا قد يجعل المؤمنين يفقدون الثقة في حب الله، فإنهم يرجعون إليه تعالى ليس حبًا به ولكن خوفًا منه. يظهر وكأن الله المحب الذي أعطى الإنسان الحرية يستردها منه بعد أن أعطاه إياها، وكأنه يجبر الإنسان على الرجوع إليه تعالى، في حين أن الله يعرض ولا يفرض، وفيه أيضًا يكون الواعظ مقتصرًا حديثه على تحذير الناس وتذكيرهم: «إن لم يسيروا بالحسنى سينزل الله بهم أشد أنواع العقاب، يظهر أيضًا وكأن الله كلى الرحمة يتجسد في صورة إنسان جبار ينتقم من الذين لا يتبعونه، ولكن الله عكس ذلك تمامًا».
وتضيف النائبة: «أيضًا الخطاب الطائفي، وفيه يظهر مدى البغض والرفض للآخر، وفيه تسود اللهجة الطائفية والحوار الطائفي، مما يظهر أن المتحدث في هذا الخطاب ليس لديه أسلوب آخر عنده، فيطغي الحوار الطائفي».
ويرى الباحث رامي كامل، أن تجديد الخطاب الدينى مصطلح انطلق فى الفترة بين أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة وبداية العقد الثانى منها، كرد على ارتفاع خطاب الأصولية الدينية داخل المجتمع التى ترجع بحلول المشاكل غير التقليدية لحلول تقليدية لا تجدى نفع وتعكس جمود الفكر الدينى أمام تحديات العصر، واليوم نواجه مشاكل الحداثة وما بعدها، فنحن نقف أمام أزمة جمود فكرى دينى يضرب كافة الأركان ومطالب بالتصدى لمشكلات لم تثر ولم تطرح من قبل.
دينى ومدنى
ويتساءل «كامل»: «هل الفكر الدينى بالأساس مطلوب تجديده؟ أم فكرنا المدنى هو المطلوب تجديده؟»، ويجيب أن منظومتنا الفكرية هى التى تحدد لنا اتجاهنا، فإن كان تفكيرنا مدنى فدولتنا مدنية، وأن كان دينى انعكس هذا بالضرورة على منظومة الدولة، وعليه فإن انحيازنا الفكرى هو ما يحدد شكل الدولة.
ويضيف: «المطالبة بتجديد الخطاب الدينى مقبولة حين يطالب بها كهنة شيوخ فهم بطبيعة تكوينهم ووظيفتهم يبحثوا عن حلول مرضية، أما حين تتحدث النخبة عن تطوير وتجديد فى الفكر الدينى فهو أمر يصنع صراع حدى وقطبى يصوره طرف أنه ظلامية ويرد الآخر بأنه حرب على الدين».
ويقول: «أولوية النخبة يجب أن تكون تطوير الخطاب المدني وأولوية المؤسسات الدينية يجب أن تكون تطوير وتجديد الخطاب الدينى، وكلاهما يسير على التوازى، واعتماد أحدهم على ضرورة تطوير الآخر وتجديده، أولًا يعكس حالة التخاذل والتراجع فى الطرح والمواجهة، وحين نبنى دولة مدنية حديثة لا مجال لتجديد الخطاب الدينى خارج المؤسسات الدينية، لكن هناك ضرورات لتطوير وتجديد الخطاب المدنى داخل المؤسسات الرسمية والنخبة الوطنية».