تقدَّمَ الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، نائبًا عن فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بخالصِ التَّهنئةِ القلبيَّةِ إلى الأمَّةِ الإسلاميَّةِ في شتَّى بقاعِ الأرضِ بمناسبةِ هذه الأيَّامِ المباركةِ الَّتي أذنَ اللهُ لزوَّارِ بيتِه أن يلبُّوا حاجِّين ومعتمرين.
ودعا وكيل الأزهر خلال كلمته في مؤتمر مركز سلام لمكافحة التطرف اللهَ أن يتمَّ على الإنسانيَّةِ كلِّها نعمةَ العافيةِ في الأبدانِ والأمنِ في الأوطانِ، ناقلًا إلى الحضور جميعًا تحيَّاتِ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ أ.د/ أحمد الطَّيِّب شيخِ الأزهرِ، ورجاءَه الصَّادقَ لهذا اللِّقاءِ أن يكون لبنةً في بناءٍ فكريٍّ نافعٍ يُظهرُ رحمةَ اللهِ للعالمين، ويقيمُ الحجَّةَ على المنحرفين.
وجاء نص الخطاب كالتالي:
لقد سعدتُ بمشاركتي اليومَ في هذا اللِّقاءِ الَّذي يناقشُ قضيَّةً مِن أخطرِ القضايا الَّتي مرَّت بها الإنسانيَّةُ، وعانت ويلاتِها البشريَّةُ، وخاصَّةً مجتمعاتِنا العربيَّةَ والإسلاميَّةَ.
وأظنُّ أنَّ الحاضرين جميعًا في غنًى عن التَّأصيلِ النَّظريِّ للتَّطرُّفِ، الَّذي يأخذُهم حينًا إلى عمقِ أعماقِ التَّاريخِ، منذ هبطَ آدمُ إلى الأرضِ، ويأخذُهم حينًا آخرَ إلى الجنَّةِ قبل أن يُخرَجَ آدمُ منها، وهكذا في تنظيرٍ ندورُ في فلكِه، بين أخذٍ وردٍّ، وقبولٍ ورفضٍ، دون أن نضعَ علاجًا عمليًّا لما تصطلي المجتمعاتُ الآمنةُ بنارِه، وتكتوي بلهيبه.
ولعلَّ أحدَ أوجهِ الأزمةِ الَّتي نعاني منها هذا التَّعمُّقُ في التَّنظيرِ إلى درجةٍ تنسينا الأسبابَ الحقيقيَّةَ في صناعةِ هذا الواقعِ المرِّ!
وهذا هو ما دفعَ الأزهرَ الشَّريفَ إلى أن يكونَ أكثرَ واقعيَّةً انطلاقًا من مسئوليَّتِه الدِّينيَّةِ ودورِه الرِّياديِّ؛ فقد تبنَّى الأزهرُ وعلماؤه -وفي مقدَّمتِهم فضيلةُ الإمامِ الأكبرِ- موقفًا واضحًا وسياسةً كاشفةً لمكافحةِ التَّيَّاراتِ الفكريَّةِ المنحرفةِ كافَّةً، أساسُه الرَّفضُ التَّامُّ والإدانةُ الفوريَّةُ والعاجلةُ لشتَّى أشكالِ التَّطرُّفِ، مع التَّأكيدِ المستمرِّ أنَّ شرائعَ السَّماءِ بريئةٌ من كلِّ ما تقومُ به هذه العصاباتُ المنحرفةُ، الَّتي تنفِّذُ أجنداتٍ خارجيَّةً.
وقد عقدَ الأزهرُ مؤتمرَه المشهودَ عام ألفين وأربعةَ عشرَ، «مؤتمرَ الأزهرِ لمواجهةِ التَّطرُّفِ والإرهابِ» الَّذي حضرَه ممثِّلون عن مائةٍ وعشرين دولةً من أنحاءِ الأرضِ، من رجالِ دينٍ، وقادةٍ سياسيِّين، وكتَّابٍ ومفكِّرين، من مختلفِ الطَّوائفِ والمللِ، والَّذي حاولَ فيه أن يصلَ إلى صيغةٍ موحَّدةٍ ضدَّ التَّطرُّفِ والإرهابِ، تكشفُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ.
وخُتمَ المؤتمرُ بإعلان «بيانِ الأزهرِ العالميِّ» الَّذي وضع الجميعَ أمامَ مسئوليَّاتِهم، وكشفَ السِّتارَ عن التَّطرُّفِ الحقيقيِّ الَّذي يغضُّ الطَّرفَ عنه كثيرٌ من المنظِّرين، ودعا إلى لقاءٍ حواريٍّ عالميٍّ للتَّعاونِ على صِناعةِ السَّلامِ وإشاعةِ العدلِ في إطارِ احترامِ اختلافِ العقائد، وتباينِ الأفكارِ.
ولم يكتفِ الأزهرُ بما قدَّمَه في هذا المؤتمرِ، وإنَّما عقدَ فضيلةُ الإمامِ الأكبرِ العديدَ من اللِّقاءات مع العلماءِ والسَّاسةِ والمثقَّفين داخليًّا وخارجيًّا؛ ليعلنَ للعالمِ كلِّه أنَّ الإرهابَ لا دينَ له، وأنَّه وباءٌ يتهدَّدُ الجميعَ، ووجَّه الأزهرُ بأبنائِه إلى ربوعِ الأرضِ في «قوافلِ سلامٍ» تجوبُ الدُّنيا، وتمدُّ يدَ التَّعارفِ والتَّلاقي.
وجدَّدَ الأزهرُ الشَّريفُ دعوتَه إلى السَّلامِ عامَ ألفين وسبعةَ عشرَ فعقدَ «مؤتمرَ الأزهرِ العالميِّ للسَّلامِ»، الَّذي شخَّصَ فيه أسبابَ الإرهابَ، وأعلنَ بلا مواربةٍ أنَّ الأديانَ بريئةٌ من هذا التَّطرُّفِ، وأنَّ أحلامَ الهيمنةِ والسَّيطرةِ على الدُّولِ، وسياسةَ الكيلِ بعدَّةِ مكاييلَ وعواملَ أخرى مشابهةٌ هي الَّتي أثمرت ثمرةَ التَّطرُّفِ المرَّةَ.
ويأتي مؤتمرُ دارِ الإفتاءِ اليومَ خطوةً جديدةً لهذه الرَّؤيةِ الأزهريَّة الوطنيَّةِ الَّتي تؤكِّدُ أنَّ مواجهةَ التَّطرُّفِ بتوضيحِ المفاهيمِ وتفنيدِ الشُّبهاتِ، وترسيخِ قيمِ التَّعايشِ، وإرساءِ دعائمِ المواطنةِ، ونبذِ العنفِ والغلوِّ، لم تعدْ مجرَّدَ شعاراتٍ جوفاءَ، بل تحوَّلتْ إلى أعمالٍ مؤسَّسيَّةٍ تقوِّي النَّسيجَ الوطنيَّ، وتعزِّزُ السَّلامَ المجتمعيَّ، وتقيمُ الحجَّةَ على صانعي الفتنِ.
العلماء الأجلاء:
ما جئتُ لأتكلَّمَ عن سماحةِ الإسلامِ، ورفضِه لكلِّ أشكالِ التَّطرُّفِ، وتكريمِه للإنسانِ من حيث كونِه إنسانًا بغضِّ النَّظرِ عن عقيدتِه، فهذا ممَّا حملتُه الآياتُ، وأعلنتْه المؤلَّفاتُ، ونشرتْه المؤتمراتُ، وهذا من أوضحِ الواضحاتِ!
وما كنتُ لأسردَ على حضراتِكم جهودَ الأزهرِ الشَّريفِ وعلمائِه، في مواجهةِ التَّطرُّفِ، من مؤتمراتٍ أو مطبوعاتٍ أو بعثاتٍ في كثيرٍ من دولِ العالمِ، أو غيرِ ذلك؛ فلوزارةِ الأوقافِ جهودُها، ولدارِ الإفتاءِ جهودُها، وللمؤسَّساتِ الوطنيَّةِ جهودُها أيضًا، بل إنَّ العقلاءَ في كلِّ مكانٍ لا يسعُهم إلَّا أن ينكروا بما استطاعوا هذا التَّطرُّفَ الَّذي يهدِّدُ الجميعَ.
وإنَّما أتوقَّفُ مع حضراتِكم متأمِّلًا هذا التَّطرُّفَ الدِّينيَّ في العالمِ، الَّذي يهدفُ مؤتمرُ اليومِ إلى رصدِ حركاتِه، فأرى أن هذا التَّطرُّفَ لم ينجُ منه عصرٌ ولا مصرٌ، فمن تطرُّفٍ في الرَّأي والفكرِ إلى تطرُّفٍ في الممارسةِ والفعلِ، ومن تطرُّفٍ يتَّهمُ الأديانَ إلى تطرُّفٍ ينكرُها بالكليَّةِ.
والمتأمِّلُ بإنصافٍ يرى أنَّ التَّطرُّفَ يبوءُ بإثمِه وعارِه من يحملُه في رأسِه فكرًا، ومَن يقومُ به ممارسةً، ومن يعينُ عليه تمويلًا ورعايةً، وأمَّا الأديانُ فلا علاقةَ لها بذلك، ولو أنَّنا حاكمْنا الأديانَ والأوطانَ لسلوكِ بعضِ أهلِها ما نجا منها دينٌ ولا وطنٌ.
وأرجو ونحن نبحثُ عنِ الأفكارِ الَّتي تضمَّنتْها أدبيَّاتُ الجماعاتِ المتطرِّفةِ أن نأخذَ بعينِ الاعتبارِ الأصوليَّةَ والعصبيَّةَ والجمودَ والانغلاقَ الَّذي ابتلي به بعضُ أتباعِ الأديانِ، وأن ندركَ حقيقةَ تأثيرِ هذه الأفكارِ المسمومةِ على عقولِ الشَّبابِ وأفكارِهم، خاصَّةً بعد سهولةِ نشرِها عبرِ الشَّبكةِ العنكبوتيَّةِ الَّتي تحتاجُ من الأجهزةِ المسئولةِ إلى مزيدٍ من الرِّقابةِ أو الحجبِ حفاظًا على الهويَّةِ، ومن الأجهزةِ التَّربويَّةِ أن تنشِّئهم على حسنِ التَّعاملِ مع معطياتِ العصرِ، وأن تضعَ للشَّبابِ برامجَ بديلةً تكفلُ لهم إشباعَ احتياجاتِهم، وتجيبُ عن تساؤلاتِهم.
وإنَّ من الواجبِ أن نبتعدَ قدرَ الاستطاعةِ عن الخطبِ والمواعظِ الَّتي تستثيرُ العواطفَ، وتدغدغُ المشاعرَ، فليس هاهنا مكانُها، وإنَّ الواجبَ الحقيقيَّ أن نضعَ حلولًا عمليَّةً جادَّةً لمشكلةِ التَّطرُّفِ تبدأُ من وضعِ برامجَ تعليميَّةٍ خاصَّةٍ، وفتحِ شراكاتٍ إنسانيَّةٍ عابرةٍ للحدودِ تقرِّبُ الشُّعوبَ وتذيبُ الفوارقَ دون أن تطمسَ الهويَّاتِ، وتكشفُ التزييفَ والتَّحريفَ.
وإنَّنا لا ينبغي أن نُخدعَ بقضيَّةِ «تجديدِ الخطابِ الدِّينيِّ»، وأن نجعلَها مشجبًا نعلِّقُ عليه الفشلَ، ومع إيمانِنا بضرورتِه، وأهمِّيتِه، فإنَّنا نؤمنُ أيضًا أنَّ التَّجديدَ له رجالُه المتخصِّصون، وله ضوابطُه، وأنَّ تجديدَ الخطابِ الدِّينيِّ ينبغي أن يسايرَه تجديدُ الخطابِ الإعلاميِّ والثَّقافيِّ والسِّياسيِّ وغيرِ ذلك من خطاباتٍ لا يستغني عنها بنو الإنسانِ.
واسمحوا لي آخرَ كلمتي أن أستثمرَ وجودَ هذا الجمعِ من ممثِّلي الهيئاتِ الأمميَّةِ، والقياداتِ الرَّسميَّةِ والفكريَّةِ من دولٍ عربيَّةٍ وغيرِ عربيَّةٍ، ونخبةٍ مؤثِّرةٍ من المسئولين والباحثين والمتخصِّصين والأكاديميين ورجالِ الدِّينِ لأقولَ للجميعِ:
«إنَّ الله سيسألنا عن الأماناتِ الَّتي وضعَها في أعناقِنا، ومتى لم نقمْ أفرادًا وحكوماتٍ ومنظَّماتٍ بما أراد اللهُ فقد خنَّا الأمانةَ الإلهيَّةَ».
وختامًا وحتَّى لا أطيلَ على حضراتكم إنَّ واجبَ الوقتِ يحتِّمُ على علماءِ الأمَّةِ أن يتحمَّلوا مسئوليَّتَهم تجاهَ التَّصدِّي للغلوِّ والتَّطرُّفِ، بلزومِ منهجِ الوسطيَّةِ في شؤونِ حياتهم كلِّها: عقيدةً وعبادةً ومعاملةً، فلا إفراطَ ولا تفريطَ.
وأنَّ يعرفَ الجميعُ أنَّ الأوطانَ لها حقُّ لا يُنكرُ، وأنَّ المواطنةَ الحقيقيَّةَ نطقَ بها تاريخُ الإسلامِ عمليًّا عبرَ دولٍ وممالكَ متعاقبةٍ
وأنَّ على العلماءِ خوضَ حربِ الأفكارِ بكلِّ قوَّةٍ وبسالةٍ لتقويضِ أركانِ التَّطرُّفِ، الَّذي يتَّخذُ من العقولِ -وخاصَّةً عقولَ الشَّبابِ- أرضًا خصبةً يبثُّ فيها موادَّه السَّامَّةَ.
وأنَّ من الواجبِ الَّذي لا ينبغي تأخيرُه أن نعيدَ النَّظرَ في مضامينِ الرِّسالةِ الإعلاميَّةِ، واستبدالها بمضامينَ جديدةٍ تركِّزُ على معالجةِ العنفِ، وتعمل على تصحيحِ المفاهيمِ، وأن نُصدرَ من التَّشريعاتِ ما يضمنُ التَّصدِّي لوسائلِ الإعلامِ المشبوهةِ، الَّتي تمارسُ أدوارًا تحريضيَّةً مدمِّرةً، تؤثِّرُ في عقولِ الشَّبابِ وتهدِّدُ أمنَ الشُّعوبِ والمجتمعاتِ.
إلى جانبِ التَّصدِّي للمعلوماتِ الهدَّامةِ الَّتي تروِّجُها الشَّبكةُ العنكبوتيَّةُ عبر صفحاتِ التَّخريبِ الاجتماعيِّ، ومعالجتها من خلالِ برامجَ تربويَّةٍ كفيلةٍ بخلقِ الوعي الكافي للتَّعاملِ معها بأمانٍ تامٍّ.
وأتوقَّعُ من هذا المؤتمرِ أن يُشخِّصَ الدَّاءَ، وأن يصفَ الدَّواءَ، وأن يخرجَ باستراتيجيَّةٍ عمليَّةٍ تحصِّنُ الشَّبابَ من غسيلِ الأدمغةِ الِّذي قد يتعرَّضون له، في ظلِّ تعاونٍ دوليٍّ مثمرٍ، ينفعُ الإنسانيَّةَ كلَّها.
وفَّقنا اللهُ لما فيه صالحُ البلادِ والعبادِ
والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه