السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: فى ذكرى رحيله.. أسامة أنور عكاشة فارس الدراما التليفزيونية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مع أسامة أنور عكاشة، يتحول المسلسل التليفزيونى إلى نص مؤثر ذى قيمة، يُنسب إلى مؤلفه فى المقام الأول، ويصنع شهرة ونجومية الممثلين. لم يكمن الأمر هكذا قبل بزوغ نجم أسامة، فالمسلسل قد يحقق النجاح المدوى غير المسبوق، ولا يعرف المشاهد اسم مؤلفه.
أسامة فى الدراما التليفزيونية هو نجيب محفوظ فى الرواية، وكما يردد العاديون من الناس، الذين لا يقرأون الروايات، أسماء «سى السيد» و«أمينة» و«حميدة»، وغيرهم من شخصيات نجيب، تتحول أسماء شخصيات عكاشة إلى جزء من نسيج الحياة اليومية ولغتها الشائعة، ومن الذى لا يعرف العمدة سليمان غانم والمتغطرسة نازك السلحدار والباشا سليم البدرى والمعلمة فضة المعداوى وحسن أرابيسك وأبوالعلا البشري؟
إلا يقتصر التشابه بين أسامة ونجيب على هذا الجانب وحده، فهناك أيضًا ذلك التعبير الخلاب الصادق العميق عن قضايا وهموم المجتمع المصرى، حيث الانغماس المحب فى أعماق الحياة الشعبية بعد إزالة الصدأ والابتذال.
عندئذ يتحول القبح إلى جمال فنى متوهج، وتكتسب السوقية رونقًا وبهاء. قرأت روايات أسامة ومجموعاته القصصية، لكنها لا ترقى فى رأيى إلى المستوى الذى يصل إليه أبناء جيله ممن ركزوا على الإبداع الأدبى وحده، خيرى شلبى وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى وغيرهم.
شاهدت أيضًا جل مسلسلاته، ومع الإقرار بتباينها وتفاوت حظوظها فى النجاح، الفنى والجماهيرى، فإنها فى الجملة ستتحول بالضرورة عند الأجيال القادمة إلى وثيقة تاريخية فنية لا غنى عنها للإحاطة بطبيعة الحياة المصرية فى القرن العشرين، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لكتابات نجيب محفوظ؟ «ليالى الحلمية» هى العلامة الأشهر فى عالم أسامة، ولاشك أنها متقنة البناء فى أجزائها الثلاثة الأولى، لكنها تترهل بعد ذلك ويتبخر بريقتها.
تبدو مرتجلة مصنوعة بعيدًا عن الإحكام الدقيق الذى يتسم به الكاتب الموهوب، وهو ما يتجسد بوضوح فى «الشهد والدموع»، التى تتوقف أحداثها فى التوقيت المناسب وتنجو من داء الثرثرة ولعنة التطويل.
المكان عنصر مهم فى التشكيل الفنى عند أسامة، ويتجلى ذلك ساطعًا فى «الراية البيضا» و«أرابيسك» و«عصفور النار»، والبراعة فى رسم ملامح الشخصيات سمة تميزه وتجعل منه رائدًا فى تاريخ الدراما التليفزيونية.
لا أعنى هنا «ضمير أبلة حكمت»، التى تتأثر بخصوصية ونجومية فاتن حمامة، لكننى أقصد السيد أبو العلا البشرى فى المسلسلين اللذين يتألق فيهما محمود مرسى، ويقدم أداء عبقريًا يصل إلى ذروة غير مسبوقة.
سينما أسامة أنور عكاشة أقل بريقًا من مسلسلاته التليفزيونية، وإذا كانت رؤيته متماسكة ناضجة مؤثرة فى فيلم مثل «دماء على الأسفل»، الذى أخرجه العبقرى عاطف الطيب، حيث التشريح الدقيق لفداحة التحولات الجذرية الموجعة التى تطول المجتمع المصرى بفعل الانفتاح والتفسخ وهيمنة القيم الوافدة، فإننى أضيق كثيرًا بفيلم «كتيبة الإعدام»، الذى أخرجه عاطف أيضًا، ذلك أن فكرة الجمع بين دورى القاضى والجلاد لا تروقنى، والنبرة الإنشائية الزاعقة فى التعبير عن المشاعر الوطنية تبدو مفتعلة مصنوعة، وبخاصة فى الإطار شبه البوليسى.
تعود علاقتى الشخصية مع أسامة إلى نهاية الثمانينيات، فقد جاء إلى المنيا مدعوًا من ناجى الجيزويت للمشاركة فى ندوة عن مسلسل «ليالى الحلمية» فى ذروة نجاحه، وكنت من أعد دراسة أشبه بورقة العمل عن عالمه.
ازدحمت القاعة الفسيحة بمئات من الحضور، واُستقبل أسامة بعاصفة من التصفيق تكشف عمليًا عن حجم مكانته وشعبيته، بعد نهاية اللقاء، أشاد بما كتبته، وأثنى على أسلوبى فى إدارة الندوة.
تعددت اللقاءات بيننا فى السنوات التالية، وكان آخرها قبل عام واحد من رحيله. أحب الإسكندرية مثله وأحلم أن أقيم فيها لأكتب مستعينًا بالبحر، وأشاركه الرأى فى غياب القداسة عن الشخصيات التاريخية التى ينبغى خضوعها لتقييم موضوعى يقف على أرضية إنسانية، ولا أظن أن عمرو بن العاص، من الناحية التاريخية دون الدينية، خارج هذا المنهج. يعالج أسامة أخطر القضايا المعقدة، التاريخى منها والواقعى، مسلحًا بمزيج من الوعى الفنى والفكرى، الذى يصنع نصًا إنسانيًا.
ولأن اجتهاداته السياسية والاجتماعية والثقافية لا تروق للكثيرين من أصحاب التوجهات المخالفة، فإنه يخوض عديدًا من المعارك الطاحنة التى يتشبث فيها بجملة من المواقف والثوابت التى لا يحيد عنها أو يتراجع. يدافع عن الحق والخير والجمال، ويراود أحلام العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحرية الفكرية.
عداؤه صلب بلا هوادة للقبح والابتذال والفساد والسوقية، ومع شجاعته وجرأته فإنه لم يُصب يومًا بداء المباشرة والزعيق والخطاب الفج، فهو يؤمن منذ البدء أن رسالته الفكرية لن تصل إلى الملتقى وتؤثر عليه بمعزل عن احترام آليات البناء الفنى وقواعده.
أعتز كثيرًا بالدراسة التى كتبتها عنه بعد رحيله ونشرتها فى عدة حلقات، وما من مرة أسمع فيها المقدمة الموسيقية البديعة لمسلسل "ليالى الحلمية"، إلا يغزونى ذلك الشجن الجميل النبيل، فأردد كلمات سيد حجاب كأننى أبكى أطلالى: ليس يا زمان ما سبتناش أبرياء؟!.