بات للحرب الأوكرانية، أثرا كبيرا في إعادة تشكيل النفوذ في مناطق مختلفة من العالم، بعدما تراجعت أدوار قوى وتنامت أخرى في التعاطي مع الأزمة التي تحيق بالعالم والتي جاوزت المائة يوما، بعدما بدأت القوات الروسية عمليتها في الرابع والعشرين من فبراير الماضي.
وفي هذا السياق، تحدثت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، عن أثر الحرب الأوكرانية على نفوذ ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي، واستهلته بالقول إنه "لسنوات، كانت ألمانيا زعيمة بلا منازع لكتلة داخل تكتل دول وسط وشرق أوروبا في الاتحاد الأوروبي التي كانت تتطلع إلى برلين للحصول على الرعاية والتوجيه، وفي بعض الأحيان، التعليمات الصريحة، لكن سلسلة من التطورات الأخيرة قوضت سلطة برلين ونفوذها في وسط وشرق أوروبا، وبشكل حاسم، بين القادة حول طاولة قمة المجلس الأوروبي".
وأضافت "بوليتيكو" أنه نتيجة لذلك "كانت النتيجة ضعفا ملحوظا في نفوذ برلين واستعدادا أكبر من قبل الدول الأخرى للسير في طريقها الخاص، وفي بعض الحالات، تحدي التحالف الفرنسي الألماني علنا الذي ظل لفترة طويلة في مركز قوة الاتحاد الأوروبي وصنع القرار، وفقًا للعديد من المسؤولين والدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي.
وقال دبلوماسي من إحدى دول أوروبا الشرقية إنهم ليسوا في حاجة لحماية من ألمانيا فقد ثبت أنها في الجانب الخطأ من التاريخ"، مشيرا إلى سياسة برلين القديمة المتمثلة في التعامل بهدوء مع موسكو، فيما أظهرت بولندا قيادة جيدة، فيما يتعلق بروسيا، خاصة بشأن الترحيب باللاجئين الأوكرانيين والتخلص التدريجي من الغاز، وتتمتع دول البلطيق حاليا بقيادة ذكية، وبلغاريا لديها حكومة جديدة أكثر مصداقية، ورومانيا دولة مستقرة.
ونوهت الصحيفة الأمريكية إلى أنه انهيار السلطة الألمانية تجلى بوضوح خلال هذا الأسبوع حيث كافح رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق لحظر النفط الروسي، والتغلب على المعارضة العنيدة لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
وتابعت "في الماضي، عندما وضع أوربان عقبات أمام مقترحات الاتحاد الأوروبي، غالبًا ما كان يُطلب من ميركل إخماده، ولم يكن هناك شك في نفوذ ميركل - وبرلين - داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن هذه المرة، اتُهمت ألمانيا بمحاولة السعي للحصول على ميزة في إعفاء مقترح من الحظر للنفط الذي يتم تسليمه عبر خط الأنابيب، ونفت برلين مرارا وتكرارا أي تورط في اقتراح الإعفاء، وتعهدت في النهاية بإنهاء جميع مشتريات النفط الروسي بحلول نهاية هذا العام - كدليل واضح على أنها لن تكسب أي شيء من استمرار إمدادات خط الأنابيب، لكن حقيقة أن الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بعض الدول من الشرق، كانت متشككة للغاية في مصداقية برلين.
وأضافت الصحيفة "في غضون ذلك، لم تسفر زيارة سابقة لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وهي وزيرة دفاع ألمانية سابقة وتلميذ ميركل، إلى بودابست، عن أي اختراق في المواجهة بشأن حظر النفط كما أن الخلاف المستمر حول سيادة القانون بين المجر والمفوضية جعل التوصل إلى حل وسط أكثر صعوبة، وبدلا من ذلك، تُرك الأمر لرئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، وهو رئيس وزراء بلجيكي سابق، والرئاسة الفرنسية لمجلس الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى حل وسط وافقت عليه المجر في النهاية، مما يمهد الطريق لاعتماد ليس فقط حظر النفط لكن حزمة سادسة أوسع من العقوبات ولم يكن لخليفة ميركل، أولاف شولتز، الاشتراكي الديموقراطي، دور رئيسي.
وقال دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي: "شولتز مشكلة حقيقية، إنه مجرد تاجر ألماني بدلا من صانع التسويات التي كانت تقوم بها ميركل"، ورد مسؤول ألماني على مثل هذه الادعاءات، بحجة أن "حقيقة وجود انتقادات من العديد من البلدان تظهر فقط أن ألمانيا تلعب دورا رائدا" في التوسط في التسويات على مستوى الاتحاد الأوروبي في هذه اللحظة الصعبة.
وأوضحت الصحيفة الأمريكية أن الانحدار في النفوذ الألماني كان جاريا بالفعل في السنوات الأخيرة من فترة حكم ميركل التي استمرت 16 عاما، ولكن ظهر لأول مرة بشكل صارخ في يونيو الماضي عندما اقترحت هي وماكرون عقد قمة الاتحاد الأوروبي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - لكنهم رفضوا بوحشية من قبل قادة بولندا. وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وبدا ماكرون وميركل عازمين على مواكبة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي عقد قمته الخاصة مع بوتين في جنيف في وقت سابق من ذلك الشهر وقد أسفر ذلك الاجتماع عن القليل من الإنجازات الملموسة، لكنه قدم تلميحا نادرا عن تحسن العلاقات مع موسكو.
وحذرت دول أوروبا الشرقية من أن بوتين لم يتخذ بعد أي خطوات ملموسة ردا على مبادرات بايدن، وحذرت من أن النهج اللين للغاية من قبل الاتحاد الأوروبي تجاه الزعيم الروسي يمكن أن يقوض جهود بايدن لخلق توازن جيوسياسي جديد، وتلقت المصداقية الألمانية والفرنسية ضربة بالفعل من الجهود الفاشلة لتنفيذ اتفاقيات مينسك للسلام، وهما اتفاقان لوقف إطلاق النار يهدفان إلى إنهاء الحرب الانفصالية التي تدعمها روسيا في منطقة دونباس الشرقية بأوكرانيا.
وقالت بوليتيكو إن غزو بوتين الواسع النطاق لأوكرانيا أكد لدول أوروبا الشرقية أن ألمانيا ارتكبت خطأ تاريخيا فادحا من خلال وضع المصالح الاقتصادية أولوية عن احتواء وعزل دكتاتور مسبب للحرب جاء الغزو بعد أشهر من التحذيرات من واشنطن بأن الحرب كانت وشيكة - تحذيرات من برلين وباريس ردت بتشكك صريح، فيما نال ماكرون بعض الثناء من مسؤولي أوروبا الوسطى والشرقية لإيلاءهم اهتماما أكبر لمنطقتهم ومخاوفهم أكثر من أسلافه في الآونة الأخيرة، وأشار البعض إلى أن الرئيس الفرنسي قد سافر على نطاق واسع في المنطقة وأن باريس دعمت ليتوانيا علانية في نزاع دبلوماسي مع الصين.
وأضافت الصحيفة أن مطالبة الرئاسة الفرنسية من مجلس الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات ضد موسكو، يُنظر إليها على أنها علامة أخرى على انخراط فرنسا في الشرق، وفيما يتعلق بألمانيا فقد أوضح بعض الدبلوماسيين والمسؤولين في أوروبا الشرقية أنهم ما زالوا يأملون في عودة برلين - ربما إعادة ترسيخ المصداقية في الشؤون الدولية بمساعدة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، التي أثارت إعجابهم على أنها أكثر جاذبية وثقة من شولز.
ودعا رئيس وزراء لاتفيا كريشانيس كاريش، ألمانيا إلى استئناف دورها البارز، مضيفا في حوار مع بوليتيكو الاثنين 30 مايو الماضي"سيكون أفضل بكثير من وجهة نظرنا لو قامت ألمانيا بدور قيادي أكبر، آرائي لم تتغير مع تغيير الحكومة الألمانية".
وأشارت "بوليتيكو" إلى أنه بالنسبة لبعض المسؤولين، فإن الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن تعيد برلين تأكيد نفسها على أنها عاصمة الاتحاد الأوروبي الأكثر موثوقية وتأثيرًا: "بالنسبة إلى ميركل، استغرق الأمر عاما أو عامين للسيطرة الكاملة على الديناميكيات في المجلس الأوروبي".