من واقع تجربتي مع كتابة المقال وفن كتابته، نعم فن كتابته، فكتابة المقال فن كسائر الفنون التي تحتاج إلى موهبة، وفي نفس الوقت صقل هذه الموهبة بالتعلم والدرس في ناحيتيه الأكاديمية، والتثقيفية.
الأكاديمية عن طريق الإلتحاق بكليات الإعلام مثلًا أو الأكاديميات المتخصصة في هذا الفن.
أما التثقيفية عن طريق القراءة المستمرة في كافة صنوف المعارف للإطلاع على الثقافات المختلفة التي تكون بمثابة ركيزة أساسية عليها معول رئيس في بناء وتشكيل وعي الكاتب الذي ينعكس ذلك على قرائه، ويجعل مقاله وكتابته مقبولة تحمل ما تحمله من واقعية ومعاينة لمجريات الأمور والأحداث، مما تكسب المقال وقارئه حيوية وحركية وديناميكية لا يشعر معها القارئ بالملل والرتابة، ولا يشعر الكاتب أن ما يكتبه لا يشكل قيمة مما يدفعه إلى المواصلة والإستمرارية وتحري الدقة في كل حرف يكتبه.
من واقع تجربتي وتعاملي مع كتاب إجلاء من خلال إلتحامي بهم عن قرب وجلوسي معهم لفترات طويلة وتبادلي معهم الأفكار والآراء وهذا ليس عيبا، فلا خاب من استشار، ولا خاب سعي من سمع النصح والإرشاد، بل يشقى من ينفرد برأيه ويظن أنه الصواب، فلا يعاند ولا يكابر إلا كل مكابر.
أو من خلال مطالعة مقالات عمالقة الفكر على كافة الأصعدة والمستويات الفكرية والثقافية والفلسفية والسياسية والإجتماعية، أو من خلال الإطلاع على كل ما يكتب في الصحف والمجلات، وكذلك متابعة ما يتم تداوله على منصات التواصل الإجتماعي، فليس كل ما تقدمه هذه المنصات غث، بل هناك منصات معتبرة تنشر الثقافات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
نحن نعيش الآن في سماء رحب، فضاء ومنصات افتراضة، نحن نعيش الآن في عصر تقدم تقني وثورة معلوماتية جبارة، وهذا ما كنا دوما نحلم به، تحقيق تواصلا بيننا وبين الآخرين، دونما حاجة إلى سفر آلاف الأميال، دونما إرهاق مادي وتكلف نفقات سفر باهظة، لكن عن طريق التطبيقات المختلفة عبر الأون لاين، من الممكن أن نعقد الندوات الثقافية، مما يثري حياتنا وننعم بفكر عالمي، كل يقول رأيه ويعبر عنه في أريحية ويسر.
نعم السيدات والسادة، إنه عصر المواكبة والمعاصرة، إنه عصر الحداثة وما بعد الحداثة آلتي لا نرفضها أبدا بل ندعمها بكل ما أوتينا من فكر ومن رجاحة عقل، دونما إفراط أو تفريط، دونما إخلال بقيمنا وموروثاتنا العقدية وموروثنا الحضاري، دونما إهدار لقيمنا وأخلاقنا، دونما العبث بعقولنا، نعم تعاملوا معنا كعقول قائدة لا عقول منقادة.
نعم أيها الحداثيون دعونا نقبل بعضنا البعض دون نزعة التعالي والاستعلاء.
دعوانا نفكر مع بعضنا البعض من أجل إعلاء كلمة الفكر، فالفكر لا دين له ولا وطن، أيها الأحرار.
عدة نقاط رئيسة أظنها مفيدة لمن يريد أن يكتب مقالا.
أولها: إختيار الموضوع، أيا كان هذا الموضوع، في السياسة، في الطب، في الفلسفة، في الإجتماع، في علوم البيئة، في العلوم الدينية.
فاختيار الموضوع لابد أن يكون مشتقا من البيئة التي يعيش فيها الكاتب.
فالكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب، نتاج البيئة التي يولد فيها، ومن ثم لابد أن يكون مهموما بقضايا مجتمعه محاولا أن يقدم لها حلولا وإلا فليذهب بفكره ومقالته إلى حيث يشاء.
ثانيها: البناء النسقي مما يحقق تكاملية المقال، بمعنى لابد أن تكون أفكار المقال متسقة مع سياقاته وفي نفس الوقت متناسقة، أي أن الكاتب يسير في خط مستقيم في مقاله، يمسك بالفكرة وخيوطها من أولها إلى آخرها، فلا يكون يتحدث عن موضوع ما فيتركه ويدخل في موضوع آخر وهكذا، مما يشتت ذهن المتلقي، ويشعره بالملل مما قد يؤدي به إلى الإنصراف عنك.
ثالثها: الإصغاء جيدا دون تكبر أو لا مبالاة بآراء القراء، فرب رأي يقدم إليك يكون مفيدا لمقالتك فتحسن منه في مقالات قادمة، فينبغي على الكتاب أن ينصتوا جيدا للنقد البناء، فرب ناصح لك يريد الخير لك ويريد أن ترتقي بفكرك، ورب ناقض لك لا يحب لك الخير، فبعدم صدك له تفوت عليه الفرصة، فرصة أن يهدمك ويهدم فكرك.
رابعها: عدم اليأس، فكثير من الكتاب ما يصابون بالإحباط واليأس لأنه ليس لهم قراء أو جمهور يشجعونهم ويصفقون لهم، وجميع الكتاب تعرضوا لذلك في مقتبل أعمارهم، لكن أكتب لذاتك، أرضي طموحك، أشبع هوايتك، اليوم لا يوجد قراء غدا سيكون هناك آلاف القراء الذين يقرأون لك ويستمتعون بكل حرف تكتبه، المهم لا تتوقف ولا تيأس واهتم بجودة وتجويد موضوعكم محل كتابتك.
خامسها: الدقة والأمانة والموضوعية، بمعنى أن يكون يكون الكاتب دقيقا عينه وسط رأسه وهو
يختار موضوع مقالته خصوصا الموضوعات الدينية والسياسية، وليطرح الذاتية والطائفية والعنصرية جانبا إذا أراد أن يستقيم مقاله ويلاقي قبولا عند الناس.
سادسها: عدم تأخير الفكرة، فأفكارنا في غالبية الأوقات تكون عصية الحضور، فإذا حضرت لا تؤجلها، بل أسعى جاهدا لتدوينها في دفترك أو على ذاكرة جوالك، وأنت في المواصلات، وأنت جالس على المقهى، وأنت تشاهد التلفاز، فأفكارنا مستقاة من واقعنا الذي نحياه، ثم قم بتهذيبها وتنقيحها وترتيبها، وبعد أن تخلد في مكتبك أعد صياغتها من جديد، وأنا على يقين أنك ستخرج بمنتوج راق يستفيد به الجميع.
سابعها: أسعى قدر استطاعتك لنشر مقالتك، بكل الطرق المشروعة والمتاحة، فلو كنت طالبا، أنشرها على مجلة الحائط في مدرستكم، في جامعتك، في معهدك، إن كنت موظفا أنشرها مقروءة بين زملائك وناقشهم فيها.
أنشرها على منصات التواصل الإجتماعي فهي منبر من لا منبر له، إلى أن يقيض الله لك من يشاهدك ويقرأ فكرك ويأخذ بيدك إلى مساحات واسعة فينشر لك في الصحف والمجلات.
ثامنها: المنهجية في الكتابة، بمعني أن تنتهج منهجا منضبطا في عرضك للأفكار تحليلا ومقارنة بأفكار الآخرين ونقدا إيجابيا، فإن كان مقالك يناقش موضوع من الموضوعات المعاصرة، فلابد من طرح الإشكالية، ليس طرحا وحسب وإنما محاولة إيجاد حلول لها، من خلال رأيك الشخصي.
تاسعها: لابد أن تكون لغة الكاتب سليمة، ينبغي عليه أن يمتلك محصلة لغوية معتبرة، ليس هذا فقط، بل ويمتلك جمال العبارة ورقتها التي تجعل القارئ متابعا مشوقا إلى كتاباتك فإن غبت عنه استوحشك وراح يتحسس أماكن تواجدك.
كذلك ينبغي على كاتب المقال أن تكون عبارته سهلة بسيط واضحة بعيدة عن المصطلحات الغامضة فالمقال يخاطب جميع أطياف المجتمع خصوصا وإن كان مكان نشره الجرائد والمجلات اليومية، والأسبوعية ونصف الشهرية والشهرية.
عاشرها:المحبة، وآثرت أن أختم بها مقالتي، لماذا؟!، لاننا لن نطبق النقاط التسعة السابقة إلا إذا كان هناك حب للأشياء التي نقدم عليها ونقوم بعملها، فبفعل المحبة وحب ما نعمله ننجز ما نقدم عليه، فلنحب ما نعمل ليحبنا عملنا الذي نقوم به، فالمحبة تصنع المعجزات، فأحبوا ما تقدمون عليه يحبكم.
ليس هذا وحسب فالمحبة احتواء، بمعنى تقمص الفكرة واعتنقها وعانقها ستعانقك وستصبح كعجينة الصلصال طيعة لك سلسلة تشكيلها، أو كقطعة رخام من الجرانيت أو المرمر، تنقش عليها فتلين لك محبة ولا تبخل عليك.
السيدات والسادة، جربوا هذه النقاط العشرة وجميعنا مرآة لجميعنا، وجميعنا يتعلم من جميعنا، فلا أحد يدعي علما، فمن ادعاه فاعلم أنه جاهله.