رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة لايت

رجائي الميرغني وجدارية نقابة الصحفيين.. من الفك حتى اسم النحات

جدارية نقابة الصحفيين
جدارية نقابة الصحفيين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم تتوقف مشاركات رجائي الميرغني، النقابي العتيد والإنسان النبيل، عند معارك السياسة والنقابة والصحافة، بل امتدت لشتي جوانب النضال أيا كان اسمه أو معناه أو مكانه، إنسانيا أو ثقافيا أو حتي حياتيا، داخل الوطن أو خارجه.

وإذا كان الكثيرون يعرفون رجائي الميرغني الصحفي والنقابي، إلا أن جوانب من هذا الرجل «الضمير»" و«أبو الحريات» كما أسماه الذين عرفوه عن قرب لم تبرز بما فيه الكفاية كمبدع وفنان وناقد أدبي وصاحب أطروحات فلسفية وثقافية وقانونية، ملهم وموسوعي الفكر والعقل والوجدان.

وإذا كانت الصحافة قد أخذت من رصيد هذه الإبداعات لانشغاله بها، إلا أنه خاض معارك ثقافية وإنسانية تقف علي قدم المساواة مع معاركه السياسية والصحفية والنقابية. ولو شئنا أن نذكره أو تتذكره في ذكراه الثانية بواحدة من أهم معاركه الثقافية، وهي معركة الحفاظ علي تراث ومكتبة وجدارية نقابة الصحفيين الموجودة بمبني النقابة القديم.

كانت معركة إنشاء مبني جديد للنقابة هي المعركة التالية لهذا المجلس بعد معركة القانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥، وبدأت مباشرة في عام ١٩٩٦ وكانت ضمن المهام التي كان «الميرغني» مسئولا عنها بصفته رئيسا للجنة الثقافية، بجانب عضويته في اللجنة المكلفة بمتابعة أعمال إنشاء المبني الجديد، وتولي مسئولية التعامل مع ميراث النقابة من الكتب والدوريات القديمة ووثائق وأرشيف نقابي تاريخي، فتولي مسئوليته بهمة وعزم واقتدار حتي كان آخر شخص غادر المبني القديم بعدما انتظره مقاول الهدد وقتا طويلا، كان خلالها يبحث عن كل ورقة ووثيقة ومستند وحتي أغلفة الكتب من بين أكوام الركام والتركمان التي أهملت لسنوات طويلة.

كانت الجدارية التي أبدعها النحات المصري العظيم  فتحي محمود، ووضعت علي مدخل النقابة عند بنائها عام ١٩٤١ تتناول جوانب من تاريخ الصحافة ونضالها برسوم بارزة.

وتبدأ الحكاية من أهمية جدارية الصحافة للفنان الشهير فتحي محمود والمشيدة علي أحد الجدران الخارجية لنقابة الصحفيين والتي تشغل مبني فيللا قديمة بشارع عبد الخالق ثروت بالقاهرة، وقد تقرر هدم هذا المبني وإعادة تشييد مبني أكبر على كامل مساحة الأرض، نظرا لأسباب كثيرة من بينها هدم المبني الذي يحتوي علي هذا العمل الفني، استلزم الأمر البحث عن طريقة للحفاظ على الجدارية بكل ما تحتويه من عناصر معمارية وأشكال فنية وزخرفية وقيمة تراثية، وكيفية نقل الجدارية بشكل آمن ويتم تخزينها خلاله بطريقة سليمة تحافظ على كامل محتواها حتى إعادة تركيبها فى المبنى الجديد المزمع إنشاؤه.

كانت هذه المعضلات تواجه «الميرغني» فتشاور مع إبراهيم نافع، نقيب الصحفيين آنذاك، وقام النقيب علي الفور بمخاطبة فاروق حسني، وزير الثقافة، فى ذلك الوقت ، والذي قام بدوره بتكليف أحد المرممين بالمجلس الأعلى للآثار. أعد تقريرا يؤكد أنه لا يمكن فك الجدارية ونزعها من مكانها وأنه من الأفضل استنساخها وتركيب الجدارية المستنسخة والاستغناء عن الجدارية الأصلية.

ولم يقتنع رجائي الميرغني، المسئول عن الحفاظ على تراث النقابة، بهذا التقرير وأصر بقوة علي الحفاظ علي الجدارية الأصلية، تواصل مع العديد من المهتمين بالشأن الأثري والترميم حتي توصل إلي الاتصال بالدكتور حسين محمد علي، أستاذ الترميم بكلية الفنون الجميلة، وخبير ترميم الآثار والأعمال الفنية، لإبداء الرأي فى شأن الجدارية، وبعد المعاينة الدقيقة أكد الدكتور إمكانية فك الجدارية والحفاظ عليها وتخزينها بطريقة سليمة آمنة.

وتم فورا لقاء مع إبراهيم نافع والميرغني، وعقد الاتفاق بين نقابة الصحفيين والدكتور المرمم وتكليفه بفك الجدارية من مكانها وتخزينها بالمقر المؤقت للنقابة « مبني نقابة المهن الطبية بالأزبكية» تمهيدا لإعادة تركيبها بالمبني الجديد، وقد استغرق هذ العمل قرابة الشهر.

ووفقا لرؤية الدكتور حسين محمد علي، فقد تم تحديد فك الجدارية وفق خطوات دقيقة، وتسبق عملية فك الجدارية بعض الخطوات وتشمل التسجيل الكامل للنقوش المراد نزعها وتحديد مناطق القطع بحيث لا تشوه المنظر العام للصور ثم التنظيف التام للسطح حتي لا تكون هناك أي عوالق سطحية تعوق عملية لصق طبقات القماش ويلي ذلك تقوية السطح بالمقوي المناسب حسب حالة الجدارية وطريقة النزع التي ستتبع.

وحدد خطوات تمهيدية تسبق عملية الفك، منها التصوير الفوتوغرافي لجميع العناصر الفنية للجدارية، رسم استكشات توضح حالة الجدارية، الرفع المعماري للجدار بمقياس رسم ١ : ٥٠، ورقيم الكتل الحجرية بأسلوب لا يضر ولا يفسد الشكل الجمال للجدارية، مع مراعاة أن يتم القطع والفصل في أماكن وأجزاء لا تتلف الشكل الجمالي والتقني ولا يفقد جزءاً من العمل الفني، وذلك باستخدام منشار يدوي أو منشار دائري مثل المنشار المستخدم في قطع وصقل الأحجار في المحاجر.

ويتم فك وفصل الجدارية وتنقل وتشون بأسلوب علمي عن طريق خطة Plan لعدم حدوث أي تلف أو خطأ أثناء إعادة التركيب، وتستخدم مونات خالية من الأملاح ومن نفس نوع وطبيعة المونة القديمة، وبعد استكمال التركيب يعاد مراجعة الجدارية على الصور والاستكشافات للتأكد من نجاح المشروع.

فك الجدارية

الفك بطريقة «الاستاكو Stucco technique» وتستخدم هذه الطريقة عند وجود نقوش بارزة وغائرة علي السطح، كذلك عندما تكون الجدارية منفذة مباشرة علي الحجر. وتتبع في الحالات التي يكون فيها سمك أرضية التشكيل من ٠.٥ إلى ٣ سم، وهذه الطريقة يصعب تطبيقها علي المساحات الكبيرة لصعوبة عملية النشر.

وتتم هذه الطريقة طبقا للخطوات  التالية، أولا تنظيف السطح، ثانيا تحديد خطوط القطع، ثالثا التقوية، ورابعا التغطية بالقماش، ثم مرحلة الفك، وفي هذه المرحلة تتم عملية نشر الجدارية ويتم ذلك بالقطع بسكين حاد أو منشار يدوي أو كهربي حول الجزء المراد نزعه والتأكيد علي تثبيت اللوح الخشبي بمقاسات الجزء المنزوع، ويمكن أيضا عمل هذا الحامل من الكرتون المقوي أو شرائح الخشب المضغوط Masonite ويوضع الحامل علي سطح الجدارية وتثني عليه أطراف القماش وتلصق أو تسمر ثم تبدأ عملية النشر ويكون النشر من أسفل إلي أعلي وببطء إلى أن تنفصل جزء اللوحة عن الجدار وتوضع علي وجهها لتتم عمليات الاختزال ومعالجة الشقوق والفجوات والتقوية تمهيداً لعمل الحامل الجديد.

لم تنته المعركة عن هذا الحد بل امتدت الحفاظ علي الجدارية حتي تم الانتهاء من بناء المبني الجديد للنقابة، وجاءت لحظة إعادة الجدارية لموقعها علي واجهة المبني، وحين بدأت إجراءات ذلك تبين أن الجدارية بقيمتها التاريخية وحجمها المعماري لم تعد مناسبة لهذا المكان لضخامة الواجهة، مما سيفيد جمال وقيمة الجدارية، فكانت الدعاوي باستمرار تخزين الجدارية باعتبارها تذكارا عفي عليه الزمن، لكن إصرار «الميرغني» أن يظل تراث النقابة حيا في عيون وضمائر كل الأجيال الصحفية بحث عن مكان مناسب يتم تركيب الجدارية به ووقع اختياره علي القاعة الكبري للنقابة الجديدة في الدور الرابع، ونظرا لأن نقيب الصحفيين إبراهيم نافع رفض من قبل أن يتولي الدكتور حسين إعادة الجدارية في مكانها الجديد، فتولت تركيبها الشركة التي أنشأت المبني.

وحدث خطأ في عملية التركيب أدي لضياع قطعة من الجدارية تتضمن اسم النحات مما يشكل ضياعا لقيمتها ونسبتها لفنانها الذي أبدعها مع مرور الزمن.

وبحث «الميرغني» طويلا عن حل لهذه الإشكالية، ونظرا لثقافته الموسوعية والفنية الكبيرة وعلاقته بالفنون المختلفة تفتق ذهنه عن طريقة لإعادة اسم النحات للجدارية من خلال استنساخ اسم النحات من إحدى لوحاته فوقع الاختيار علي جدارية فتحي محمود علي مدخل الغرفة التجارية بباب اللوق بالقاهرة. وبقيت الجدارية تشهد علي براعة ودأب وحنكة وصدق رجائي الميرغني.

وختاما كان عبد العال جد رجائي الكبير نجارا شهيرا بمحافظة المنيا، وكانت زوجته جدة رجائي أديبة تمتدح صناعة زوجها النجار كلما مرت علي مكان به أحد إبداعاته مرددة قولتها التي صارت مثلا يحفظه آل الميرغني جيلا بعد جيل:

تفني السواعد والعمل جاعد "قاعد" يا عبد العال.

واليوم نقول للحفيد رجائي الميرغني تفني السواعد والعمل جاعد يا ميرغني.

طبت حيا وطبت خالدا.

ولنا حديث آخر مع معركة الحفاظ علي مكتبة نقابة الصحفيين وتراثها ووثائقها ودورياتها التاريخية.